ميكروبات الجسم .. لماذا لا نستطيع العيش من دونها
يحتوي جسمك على بعض أكثر النظم الإيكولوجية تعقيداً على وجه الأرض والتي تؤثر في كل شيء من الهضم إلى عواطفك
بقلم: لورا ميرز
يعج جسمك بالحياة. ففي كل زاوية وركن منه هناك أنظمة إيكولوجية مصغرة تمتلئ بالبكتيريا والعتائق Archaea والفطريات والطلائعيات Protists والفيروسات. إنها تشكل جزءاً حيوياً من بنيتك البيولوجية، فهي تهضم طعامك وتتفاعل مع جهازك المناعي، بل تؤثر في حالتك المزاجية. مثلما تعيش النباتات والحيوانات المختلفة في موائل Habitat مختلفة على الأرض، فإن أنواعا مختلفة من الميكروبات تستوطن أجزاء مختلفة من جسمك. ويتسم الجلد على ذراعيك وساقيك بالجفاف كما أن درجة حرارته تتغير تغيرا غير متوقع، مثل الصحراء، لذا فالقليل من الأنواع تكون قوية بما يكفي قادرة لاستيطانه. ولكن بطانة أمعائك دافئة ورطبة وغنية بالمغذيات، مثل المناطق الاستوائية، ومن ثم تدعم تنوعاً كبيراً في الحياة المجهرية. وتُعرف مجتمعات الميكروبات الموجودة في كل نظام إيكولوجي صغير بالجسم بـ“الميكروبيوتا” Microbiota، وجينوماتها بـ“الميكروبيوم” Microbiome.
وقد يصعب تحليل هذه النظم الإيكولوجية المصغرة، لكن التقنيات تطورت بسرعة في السنوات الأخيرة. وتتمثل إحدى طرق فهم ميكروبات الجسم بأخذ المسحات والعينات وزراعتها في أطباق اختبار بتري Petri dishes. ولكن هذا لا يكشف عن القصة كاملة، فلا يستطيع كثير من الميكروبات التي تعيش بسعادة داخل أجسامنا أن تظل على قيد الحياة على طبق في المختبر، ولذلك لا نراها أبداً. ولكن مع تقنيات السَلْسَلَة الجينية الحديثة، يمكن اكتشاف التواقيع المميزة لميكروبات الجسم الخفية هذه، والنتائج مذهلة. كما اتضح، نحن نتألف من الميكروبات أكثر من كوننا بشراً، كما أن ميكروباتنا أكثر تفردا من جيناتنا.
تشير التقديرات القديمة إلى أن عدد الخلايا البكتيرية يفوق عدد خلايانا بنسبة عشرة إلى واحد، لكن العلوم الحديثة أكثر تحفظاً قليلاً. ويرجّح أن يوجد ما بين 30 إلى 50 تريليون خلية بكتيرية بداخلك الآن، مقارنة بنحو 30 تريليون خلية بشرية فقط. وهذا يعني أننا نصفُ بشرٍ في أحسن الأحوال. وإضافة إلى ذلك، في حين نتشارك نحن البشر نحو %99.9 من حمضنا النووي مع بعضنا البعض، فإن النظم الإيكولوجية بداخلنا ليست متشابهة. وعند المقارنة بين ميكروبات أمعائنا، فنحن نتشارك معها فيما بين 80 إلى %90 فقط من الجينات نفسها.
يعتقد بعض العلماء أنه يجب علينا التوقف عن التفكير في أنفسنا كأفراد والبدء بالتفكير في أنفسنا كنظم إيكولوجية تسمى الكائنات الحية المتفاعلة “هولوبيونت” Holobiont – وهي كلمة تعني حرفياً “كائن حي كامل”. ويساعد هذا النهج على فهم التأثير الهائل لميكروبات الجسم على صحتنا. فلا تتجول الميكروبات داخلنا فحسب، بل إنها تشكل جزءاً لا يتجزأ من بنيتنا البيولوجية؛ نحن نحتاج إليها بقدر ما تحتاج هي إلينا.
خذ القناة الهضمية، مثلاً. إنها أغنى النظم الإيكولوجية في جسدك، بفضلك أنت. يوفر الطعام الذي تتناوله إمداداً ثابتاً من المغذيات، مما يدعم أكثر من ثلاثة أرباع البكتيريا التي تستوطنك. لكنها لا تعيش عالة عليك؛ فميكروبات الأمعاء جزءٌ حيويٌ من الجهاز الهضمي. لدى البكتيريا جينات لا نمتلكها تمكنها من أداء حيل أيضية يعجز البشر عنها. ويعني هذا أنها تستطيع هضم الطعام الذي لن تتمكن أجسامنا من هضمه. كما يمكنها أيضاً صنع الفيتامينات الأساسية التي لا يمكننا إنتاجها بمفردنا.
يمكننا وجود الميكروبات في أمعائنا من استخراج المزيد من المغذيات من الطعام الذي نتناوله. في اليابان، مثلاً، تحتوي أجسام بعض الناس على أنواع من البكتيريا المعوية المعروفة بــ باكتيرويديس باليبيوس (العصوانية الوضيعة) Bacteroides plebeius. وهي تأتي من الطحالب البحرية في طعامهم، وتصنع إنزيماً يمكنه هضم السكر المركب الموجود في الطحالب الحمراء. ومن دون هذا الإنزيم يمر السكر عبر الأمعاء دون أن يُهضم. ولكن بفضل هذه البكتيريا، يكون السكر مصدراً جديداً من مصادر الطاقة في الجسم.
يبدو أيضاً أن البكتيريا تحمي بطانة أمعائنا. إذ يجب أن تتمكن أمعاؤنا من امتصاص المغذيات دون السماح بدخول مسببات الحساسية والسموم والبكتيريا الضارة إلى الجسم. ولكن في الفئران، فقد يسبب قتلُ بعض البكتيريا المعوية حساسيةً للفول السوداني، لكن إعادة توطين البكتيريا تعكس هذا التأثير. لذا، يبدو أن هذه الميكروبات تستطيع منع دخول بروتينات الفول السوداني الخطيرة إلى الجسم.
النظام الإيكولوجي في أمعائنا ضروري لبقائنا على قيد الحياة. ومع ذلك، فمثل أي نظام إيكولوجي آخر على هذا الكوكب، فإن الحفاظ على مجتمع صحي ينطوي على موازنة دقيقة. تدعم أحشاؤنا مئات الأنواع، وإذا حدث خلل في هذا المزيج المعقد، فقد تقع كارثة. رُبطت مشكلات الميكروبيوم بمعظم أنواع الأمراض، من حب الشباب والإسهال إلى داء السكري والسرطان.
لا تزال الأبحاث الهادفة لاستكشاف الدور الذي تؤديه الميكروبات في صحتنا في مراحلها المبكرة، لكن هناك بعض الروابط التي بدأت تتضح أكثر فأكثر. وتؤدي الوراثة ونمط الحياة أدواراً مهمة في كيفية تفاعلنا مع الميكروبات المعوية.
تمثل دراسة براز الفئران إحدى الطرق التي يستخدمها العلماء لمعرفة ذلك. فقد يخبرنا تحليل بقايا وجبة ما مقدار الطاقة التي استخلصتها الفئران من طعامها. وعندما تحدث طفرات جينية مرتبطة بالسمنة في الفئران يتغير كل شيء. وتمكنت الفئران المصابة بأحد أنواع الطفرات من استخلاص كمية أكبر من السعرات الحرارية من مقدار الطعام نفسه، فيما ظلت الفئران التي لديها طفرة مختلفة مستمرة بأكل المزيد. ففي كلتا الحالتين، يبدو أن البكتيريا المعوية هي المسؤولة جزئياً.
تتوافق البكتيريا المعوية أيضاً مع أنماط حياتنا؛ فتناول الكثير من اللحوم يجعلها تتحول إلى الإنزيمات الهاضمة للبروتينات، في حين يشجعها تناول الخضراوات على الاستعانة بالإنزيمات التي تكسر الكربوهيدرات المعقدة. فهذا أمر مفيد جداً لكل منا وللميكروبات.
لا يمكننا هضم معظم الألياف الموجودة في الأطعمة النباتية بمفردنا، ومن دون الألياف، لا يمكن للبكتيريا الجيدة البقاء على قيد الحياة. ولذلك، فنحن نعمل معا. كلما زادت الألياف التي تتناولها، زاد عدد البكتيريا التي يمكنك دعمها، وهناك فوائد لجسمك أيضاً.
تصنع البكتيريا التي تتغذى بالألياف الأحماض الدهنية Amino acids، التي تُغذي خلايا أمعائك، وتدعم سلامة الحاجز المعوي وتقلّل الالتهاب.
حتى الآن، انصب معظم التركيز على الأمعاء التي تميل إلى الحصول على معظم الاهتمام عندما يتعلق الأمر بالميكروبات لأنها بسهولة أغنى نظام إيكولوجي في جسدك. ويرجع هذا ببساطة إلى أن القناة الهضمية غنية بالمغذيات. ومع ذلك، فلمجرد أن الأجزاء الأخرى من الجسم لا تحتوي على القدر نفسه من الطعام الذي تأكله الميكروبات، فلا يعني أنها لا تمتلك مجتمعات مجهرية خاصة بها.
خذ الجلد، مثلاً. فحجم جلد الشخص البالغ يبلغ نحو مترين مربعين، وهو موئل هائل للميكروبات. ولأن معظم الجلد بارد وحمضي قليلاً، فهو مكان يصعب على الميكروبات أن تستوطنه، لكن هناك ملاذات آمنة بين هذه الصحاري، خاصة في الطيات والشقوق.
تجذب التجاعيد الدافئة والرطبة في الجلد، مثل السرّة، بكتيريا مثل البكتيريا ستافيليكوكوس أوريوس. أما الغدد، مثل تلك الموجودة على الوجه؛ فتجتذب أنواعاً مثل البكتيريا بروبيونيباكتيريوم أكنيس (البرُوبْيُونِيَّةُ العُدِّيَّة) Propionibacterium acnes – سميت على اسم حبوب الشباب باللغة الانجليزية والتي تسببها عندما تنمو بسرعة كبيرة. ويشكل كل شق صغير نظاماً إيكولوجياً ضئيلاً بمجتمعه الفريد من ميكروبات الجسم.
تعيش مجموعات مختلفة من الميكروبات بداخل الأذن، وعلى حافة الأنف، وبداخل المنخرين، وفي الإبط وفي ثنية المرفق. وهي تساعد على حماية الجلد من أن تسوطنه البكتيريا والفطريات الخطيرة والمسببة للأمراض. وكذلك، فهي توجّه جهاز المناعة، وتدربه على منع العدوى بالطفيليات.
تشكل هذه الميكروبات أيضاً جزءاً من بصمة فريدة للجسم تتألف من الكائنات الدقيقة. وتترك البكتيريا التي تستعمر أيدينا آثاراً منبهة على كل شيء نلمسه. فالتواقيع التي تتركها وراءها محددة جدا، بحيث لا يمكنك فقط معرفة الشخص الذي لمس شيئاً، بل يمكنك أيضاً معرفة أي إصبع. فالنظم الإيكولوجية المصغرة الخاصة بك فريدة من نوعها مثلك، ومن دونها، لن تكون موجودا.