كيف تتطور الحياة
اكتشف المسارات البيولوجية عبر الزمن، والتي أدت إلى نباتات وحيوانات اليوم
عما كان عليه عندما ظهر نوعنا البشري لأول مرة.
طوال نحو 3.7 بليون سنة، اتبعت الحياة خريطة طريق للتطور. استرشدت الرحلة إلى الحياة المعاصرة وأكثر من 2.16 مليون نوع معروف تعيش على الأرض بالعديد من المسارات التطورية المختلفة. كان عالم الطبيعة الملقب ”بوالد التطور“، أي تشارلز داروين Charles Darwin، قد طرح نظرية التطور Evolution بالانتخاب (الانتقاء) الطبيعي Natural selection لأول مرة بعد أن استقل السفينة صاحبة الجلالة بيغل HMS Beagle في عام 1831 وأبحر حول العالم لمدة 5 سنوات. خلال أسفاره، استكشف داروين كائنات برية متنوعة، ولاحظ أن لديها تشريحاً متكيفاً بشكل خاص على بيئاتها، فخلص إلى أن بقاء الأنواع يعتمد على السمات التي تناسب بيئتها. يعني نهج البقاء للأصلح هذا أن الحيوانات التي تحمل خصائص مفيدة هي وحدها التي تستطيع البقاء إلى أن تتكاثر وتنقلها إلى نسلها. أشار داروين إلى أنه بقوى التطور، تشكلت شجرة عائلة سلفية Ancestral family treeالأنواع للحديثة، أي تشارك في سلف مشترك في جذورها.
تتنوع قوى التطور، وهي خاصة بكل كوّة إيكولوجية Ecology niche. بالنسبة إلى كثيرين، يكون التطور مدفوعاً بالانتقاء الجنسي ،Sexual selection حيث يختار الشريك صفات في زوجه المحتمل – مثل ألوان الريش الزاهية أو القرون الكبيرة – من أجل التكاثر بنجاح. وبالنسبة إلى آخرين، يحدث الانتخاب الطبيعي عندما يتغير أحد جوانب بيئة النوع، بفعل التغير المناخي مثلاً، فيضطر أفراده إلى التكيف أو الموت. سيستمر بالتكاثر من يمكنه أن يتغير، مما يؤدي إلى بعض الاختلافات التشريحية والسلوكية على مدى آلاف السنين، فتنشأ أنواع جديدة خلال هذه العملية. يشير العلماء حالياً إلى ظهور نوع جديد بالتطور التباعدي Divergent evolution، حيث ينفصل نوع جديد عن سلف مشترك ما. طُرح مفهوم ”التطور التباعدي“ لأول مرة من قبل نصير التطور جون توماس غوليك John Thomas Gulickف ي عام 1890. وكما يشير إليه الاسم، يحدث التطور التباعدي عندما تتباعد مجموعة فرعية من نوع Species ما تشريحياً عن بقية أفراد النوع، فتنتشر هذه الجينات حتى يظهر نوع جديد مميز. مرت جميع أشكال الحياة على الأرض بتطور متباين من سلف مشترك بعيد، فتفرعت إلى فصائل (عائلة) Families جديدة تشكل شجرة الحياة.
فمثلاً، يتشارك البشر أكثر من %97 من حمضهم النووي DNA مع الأنواع الأخرى من القردة العليا Apes على الأرض: إنسان الغاب Orangutans، والغوريلات Gorillas والشمبانزي Chimpanzees. تطورت القردة العليا من سلف مشترك منذ أكثر من 25 مليون سنة، وتباعدت عن نسبها Lineage المشترك فأنتجت عدداً غير معروف من الأنواع التي انقرضت الآن، مما مهد الطريق لظهور حيوانات العصر الحديث. وعلى الرغم من أنها تتشارك سلفاً مشتركاً، فقد طوّر كل منها خصائص مختلفة بشكل متميز، والتي استفاد منها في بيئته لكنها أدت في النهاية إلى تطور كل نوع مستقل منها.
يحدث التطور التباعدي على مدى فترات طويلة، فتشير بعض الدراسات إلى أن ظهور نوع جديد يستغرق نحو مليوني سنة. ومع ذلك، فلم تكن جميع الحيوانات على استعداد للانتظار كل هذا الوقت، فتطور العديد من الأنواع الجديدة بسرعة بعملية تعرف بالإشعاع التكيفي Adaptive radiation. تضمنت واحدة من أهم مشاهدات داروين مجموعة من طيور الحسون Finches التي كانت تعيش في معظم أنحاء جزر غالاباغوس Galápagos Islands. لاحظ داروين عبر الجزر المختلفة أنه من بين طيور الحسون القريبة الصلة، يختلف حجم المنقار وشكله اعتماداً على نوع الطعام الذي تأكله. خلص داروين إلى أنه مع كل جيل جديد، تمكنت الطيور التي كانت مستعدة بشكل أفضل للعثور على الطعام من البقاء- وهو مفهوم شكل الأساس لنظريته حول الانتخاب الطبيعي.
الطيور ذات المناقير المصممة خصيصا لتناسب طعامها
أبابان ‘APAPANE
هيماتيوني سانغوينيا Himatione sanguinea
تتغذى هذه الطيور ذات المنقار الرفيع برحيق النباتات، غالباً من أزهار شجرة أوهيّا ليهوا ‘Ohi’a lehua.
كاواي نوكوبوو KAUA’I NUKUPU’U
هيميغناثوس هانابيبي Hemignathus hanapepe
تستخدم هذه الطيور مناقيرها الرفيعة المعقوفة لالتقاط فرائسها من الحشرات التي تعيش تحت لحاء الشجر.
أييوي ‘I’IWI
فيستساريا كوكسينيا Vestiaria coccinea
للوصول إلى رحيق الأزهار الأنبوبية، طورت هذه الطيور مناقير طويلة منحنية.
منقار الببغاء الماوي MAUI PARROTBILL
سودونستور زانثوفريس Pseudonestor xanthophrys
تُعرف هذه الطيور أيضاً بــ كيويكيو Kiwikiu، وتستخدم مناقيرها التي تشبه مناقير الببغاء لشطر الأغصان لاستخراج الحشرات ويرقاتها.
حسون ليسان LAYSAN FINCH
تليسبيزا كانتانس Telespiza cantans
لأنها من الطيور القارتة Omnivores، تُستخدم مناقيرها في قطف الثمار والبذور، وكذلك التقاط اللافقاريات وحتى أكل الجيف.
أكيالوا الأصغر LESSER ‘AKIALOA
أكيالوا أوبسكيورا Akialoa obscura
استخدم هذا النوع المنقرض منقاره لاصطياد الحشرات التي تعيش في لحاء الشجر، حيث كان يُدخل منقاره بالكامل في الشقوق.
وبالمثل، في هاواي، خضعت مجموعة من الطيور تدعى الباحثات عن العسل Honeycreepers لإشعاع تكيفي نتجت منه فصيلة متنوعة من الطيور ذات المناقير المتخصصة لطعام كل منها. يتمتع بعضها بمناقير كبيرة وطويلة للبحث تحت اللحاء للعثور على الحشرات، في حين طوّر البعض الآخر مناقير متينة وقوية لكسر البذور والتقاط ثمار التوت. عند وصولها إلى هاواي قبل نحو 3 ملايين سنة، لم يضيع السلف المشترك لنوع الباحثات عن العسل وقتاً في التكيف مع المصادر العديدة للطعام الموجود في معظم أنحاء الأرخبيل. وفي غضون مليوني سنة، ظهر 50 نوعاً من الطيور الباحثة عن العسل، لم يبق منها حالياً سوى 17 نوعاً فقط.
وكما يؤدي التطور التباعدي إلى ظهور أنواع جديدة تماماً من سلف مشترك، فإن مساراً تطورياً آخر، يُعرف بالتطور التقاربي Convergent evolution، ينتج أنواعاً جديدة طورت سمات مشابهة بصورة مذهلة. للوهلة الأولى، يمكنك أن تغفر لعلماء البيولوجيا الأوائل لظنهم خطأ أن الدلافين نوع من الأسماك، أو أن الخفافيش تنتمي لفصيلة الطيور، وذلك لأنها تتشارك عدداً من الخصائص المتشابهة: طورت الدلافين زعانف تشبه الأسماك لتتمكن من السباحة، وطورت الخفافيش أجنحة تشبه أجنحة الطيور لتستطيع الطيران. لكن لا يوجد سلف مشترك بين الدلافين والأسماك، وكذلك الحال بالنسبة إلى الطيور والخفافيش. لكل منهما نسب تطوري منفصل تماماً، ومع ذلك فقد طور كلاهما سمات تشريحية متشابهة، تُعرف بالتشابهات الوظيفية .Analogies
عندما يحتل نوعان الكوّة الإيكولوجية نفسها، ومن ثمّ يخضعان لضغوط التطورية نفسها، يتطور كلاهما ويتكيفان بطرق متشابهة، فيتحولان بمرور الزمن إلى نوعين جديدين يشبه أحدهما الآخر. بالنسبة إلى الطيور، ظهرت القدرة على الطيران قبل نحو 160 مليون سنة عندما تمكّن أقدم طائر معروف، وهو ديناصور طويل الريش يُدعى الأركيوبتركس Archaeopteryx، من الرفرفة بريشه الطويل – الذي غطى جلد الديناصورات لملايين السنين. ساعد الطول الممدود لذراعي هذا الديناصور على توليد بعض قوى الرفع، مما مكنه من الطيران لفترات قصيرة من الزمن، بطريقة مماثلة لطائر الدراج Pheasant المعاصر. منح الطيران الأركيوبتركس أفضلية على الحيوانات الأخرى من حيث تجنب المفترسات، وكذلك الانقضاض على الفريسة من قمم الأشجار. ومن ناحية أخرى، تطورت الخفافيش منذ 50 مليون سنة فقط، فهي من نسل نوع غير معروف من الثدييات. يعتقد العلماء أن الخفافيش تطورت من ثدييات صغيرة كانت تعيش على الأشجار، والتي طورت في النهاية سدائل جلدية بين أصابع أقدامها تسمى الحُظاب (الشُّنْتَرَة) Interdigital webbing هذا الحُظاب، الذي تطور في نهاية المطاف إلى جناحين لم يُمكّنا الخفافيش في الانزلاق من شجرة لأخرى، بل ولّدا رفعاً Lift نشطاً مثل الطيور، مما مكنها من الطيران.
تحت مظلة التطور التباعدي، هناك تطورات دقيقة Microevolutions يمكن أن تدفع النباتات والحيوانات إلى مسار تطوري يتشابك مع مسار آخر.
فيما يُعرف بالتطور المشترك Coevolution، تحدث هذه الظاهرة عندما يطور نوعان خصائص تشريحية نتيجة للتفاعل مع نوع آخر. تتركز هذه التفاعلات عادة حول واحدة من 3 عمليات في الطبيعة: التلقيح والتطفل والافتراس.
تطورت الملقحات Pollinators مثل النحل والطيور جنباً إلى جنب مع الأنواع النباتية بطرق تفيد كليهما. فمثلاً، توجد حبوب لقاح ورحيق نبات سحلبية داروين Darwin orchid (أنغريكوم سيكويبيدالي Angraecum sesquipedale) في نهاية أنبوب طويل بعد بتلاتها، والذي لا يمكن أن يصل إليه سوى عدد قليل من الملقحات. ولحسن الحظ، فإن أحد الملقحات، وهو عث أبو الهول الذي وصفه والاس Wallace’s sphinx moth (زانثوبان طويلا يسمى الخرطوم Proboscis. يمكن للخرطوم أن يمتد إلى نحو 30 سم لارتشاف رحيق سحلبية داروين، والتقاط حبوب اللقاح في طريقه. يزود هذا عث أبو الهول بمصدر غذائي لا تستطيع الملقحات الأخرى الوصول إليه.
على عكس التطور المشترك الذي يفيد كلا النوعين، كما يظهر في العلاقات بين النبات والملقحات، فإن بعض الحيوانات، مثل يساريع فراشات ألكون الزرقاء Alcon blue caterpillars (فينغاريس ألكون Phengaris alcon)، قد تطورت مع أنواع أخرى بطرق تجعلها طفيليات مثالية. بمحاكاة الرائحة المنبعثة من يرقات النمل الشائع Myrmica ants، يمكن ليساريع فراشات ألكون الزرقاء أن تتسلل إلى أحد الأعشاش ويرحّب بها في مستعمرة النمل بكل حفاوة، وسيُعتنى بها لاحقاً كإحدى بنات نوعها. تشير الدراسات إلى أنه عندما يتعرض العش للتهديد، فإن الرائحة المنبعثة تجعل النمل يمنح الأولوية لحماية اليساريع أكثر من يرقاتها.
تطور التلقيح الحيواني قبل 99.6 إلى 65.5 مليون سنة
بقلم: سكوت داتفيلد