بقلم: جوناثان أوكالاهان
من المؤكد أن طريق الأرض لم يكن سهلاً. فطوال حياته، تعرض كوكبنا مراراً وتكراراً للضرب والقذف وحتى التحطيم بفعل الصخور الفضائية؛ مما أدى في بعض الأحيان إلى القضاء على أعداد هائلة من الكائنات الحية وإحداث تغيير كبير في صلاحية كوكبنا للسكنى. ولكن هذه الارتطامات الهائلة لم تتسبب فقط في حدوث انقراضات جماعية؛ فقد كانت مسؤولة أيضاً عن السماح للحياة بالازدهار هنا في المقام الأول، وقد يدين قمرنا بوجوده إلى ارتطام هائل وقع منذ زمن بعيد.
تمتلئ مجموعتنا الشمسية بالكويكبات والمذنبات، وبقايا الحطام المتخلف عن الشمس المبكرة التي فشلت في تكوين كواكب. وتدور بعضها في مدارات قريبة من الأرض وتعرف بالكويكبات القريبة من الأرض، وهي التي لها أقرب مسارات إلى كوكبنا. وتوجد غالبية الكويكبات في مجموعتنا الشمسية في حزام الكويكبات الواقع بين المريخ والمشتري، والذي يؤوي ملايين الكويكبات، وأكبرها هو فستا Vesta، الذي يبلغ متوسط قطره 530 كم. وعلى مسافة أبعد في المجموعة الشمسية، توجد الكويكبات الطروادية، التي تشترك في مداراتها مع الكواكب الكبيرة، وفي المجموعة الشمسية الخارجية، أي حزام كويبر وخارجه، ستجد قطعاً من الصخور الجليدية. وفي بعض الأحيان يشق مذنب من هناك طريقه نحو الأرض.
إذا انطلقت إحدى هذه الصخور في مسار تصادمي مع الأرض، فقد تكون العواقب وخيمة بالنسبة إلينا. ومعظم الحطام في المجموعة الشمسية يحترق ببساطة في الغلاف الجوي ويسبب لنا مشكلات طفيفة، ليصبح ما يعرف بالشهاب. فإذا كان كبيراً بما يكفي، فقد يصل إلى السطح في شكل حجر نيزكي. وكلما زاد حجم الحجر النيزكي، زادت قوة ارتطامه بكوكبنا. ونقيس التأثير الذي يمكن أن يحدثه ارتطام كويكب بالأرض باستخدام مقياس تورينو، الذي يتراوح من 0 إلى 10. ويمتلك جرم واقع في الطرف الأدنى فرصة أقل للارتطام ويفرض مخاطر قليلة على الحياة على الأرض. أما عند الطرف العلوي؛ فإن الارتطام يكون شبه مؤكد، ومن ثمَّ تكون آفاق البقاء على قيد الحياة ضئيلة. ولحسن الحظ، لا نعرف بوجود أي جرم يقع عند أعلى من الصفر على المقياس في الوقت الحالي.
في الماضي، بالطبع، ارتطمت مثل هذه الأجرام بأرضنا بالفعل، على الرغم من أن ذلك حدث قبل ظهور البشر المعاصرين بوقت طويل. ترك معظم هذه الارتطامات ندبات ملحوظة على سطح كوكبنا في شكل فوهات. وبالنسبة إلى الارتطامات التي وقعت منذ فترة طويلة، ربما اختفت هذه الفوهات تحت أراض جديدة؛ مما يتطلب منا الحفر تحت الأرض أو البحث تحت الماء عن بقاياها. عموما، فمن خلال صور الأقمار الاصطناعية التفصيلية للكوكب، أنجزنا مهمة موفقة في العثور على معظم الفوهات الملحوظة.
وفي نوفمبر 2018 أعلن العلماء اكتشاف فوهة جديدة ضخمة تختبئ تحت صفيحة غرينلاند الجليدية. يطلق على هذا الانخفاض العملاق اسم فوهة هيواثا، ويبلغ قطرها 31 كم؛ مما يجعلها واحدة من أكبر 25 فوهة ارتطامية على الأرض. وليست هذه أكبر فوهة جديدة اكتُشفت في التاريخ الحديث فحسب، بل الفوهة الأولى التي وجدناها تحت صفيحة جليدية. ويشير وجودها إلى أنه قد يكون هناك الكثير من الاكتشافات القادمة.
اكتُشفت هذه الفوهة عن طريق الطيران فوق غرينلاند واستخدام رادار مخترق للجليد للنظر أسفل الجليد. ويستخدم العلماء هذه التقنية لرصد تأثيرات التغير المناخي ومعرفة مقدار ذوبان الجليد. لكنهم فوجئوا باكتشاف شيء آخر أيضاً. ومع استمرار ذوبان الجليد وتغير المشهد، اكتشفت ملامح لم تُكتشف من قبل- بما في ذلك فوهة ارتطامية هائلة. وبمجرد اكتشاف الفريق لما يشبه الفوهة الخفية، بدؤوا بتنقيح وتحسين البيانات المتاحة لمعرفة ما إذا كان بوسعهم الحصول على صورة أفضل لها. وشمل ذلك التقاط المزيد من الصور الرادارية في شهر مايو 2016 في محاولة لإنشاء صورة أوضح لما يوجد تحت الجليد. وأظهرت هذه النتائج أن الافتراض الأولي كان صحيحاً- كانت هناك فوهة كبيرة تحيط بها حافة.
للتعرف على سبب تشكّل الفوهة، سافر البروفيسور كورت كجير من متحف التاريخ الطبيعي في الدنمارك، الذي قاد المشروع، إلى الموقع في يوليو 2016 لجمع العينات. دُفنت الفوهة على عمق عدة كيلومترات أسفل الجليد، لذلك لا يمكن أخذ عينات منها بشكل مباشر، لكن البروفيسور كجير وجد أن جزءاً من النهر الجليدي الذي وجدت فيه الفوهة يذوب؛ مما يشير إلى تسرب المياه الذائبة التي تحتوي على المعادن من الفوهة. جمع كجير عينات من هذه المياه ووجد آثاراً دامغة تدل على ارتطام كويكبي. احتوت المياه الذائبة على حبيبات الكوارتز التي تعرضت للصدمات، بفعل ارتطام على الأرجح. ويُعتقد أن هذه الفوهة نتجت بفعل ارتطام كويكب حديدي يبلغ عرضه 1.5 كم تقريباً، ضرب سطح الأرض بسرعة 20 كم في الثانية؛ مما منحه قوة ارتطام تكفي لإحداث تلك الفوهة الضخمة تحت الصفيحة الجليدية. وثاني أكبر فوهة هي فوهة توكونوكا في أستراليا، التي يبلغ قطرها 66 كم. لكن كلا منهما تبدو قزمة مقارنة بأكبر فوهة ارتطامية وجدت على الأرض حتى الآن، وهي فوهة فريدفورت Vredefort Crater في جنوب إفريقيا، التي يبلغ قطرها 300 كم.
واكتُشفت معظم هذه الحفر الكبيرة منذ فترة طويلة، فكيف تمكنت واحدة بهذه الضخامة من تجنب اكتشافنا لها لفترة طويلة؟ تكمن الإجابة في الغالب في قدرتنا على رسم الخرائط الجوفية. فعلى الرغم من أن لدينا صوراً بالأقمار الاصطناعية لمعظم كوكب الأرض، فإن إلقاء نظرة تحت السطح أكثر صعوبة بعض الشيء. ولكن في وجود المزيد والمزيد من الطائرات المجهزة بالرادار، التي تحلق فوق الصفائح الجليدية، صرنا قادرين على النظر بسهولة تحت هذا الجليد لمراقبة التغير المناخي. وبذلك، يمكننا أيضاً تحقيق اكتشافات رائعة كهذه. وقد يكون هناك المزيد من الاكتشافات الكامنة بانتظارنا تحت الجليد.
لكن فوهة هيواثا ليست قضية محسومة حتى الآن، فمن أهم الأسئلة التي لم يُجب عنها حول هذا الارتطام هو توقيت حدوثه. ويعتقد الفريق حالياً أنه وقع قبل 12,000 إلى ثلاثة ملايين سنة؛ مما يجعله أحدث ارتطام معروف لنا إلى حد بعيد- فقد حدث آخر ارتطام نيزكي رئيسي قبل هذا بنحو 40 مليون سنة. نحن نعلم أن الارتطامات الكبيرة مثل هذه قد تكون لها تأثيرات عميقة في الحياة على كوكبنا، فهل يمكن أن تنذر فوهة هيواثا بحدث للانقراض؟
وجد العلماء صعوبة في السابق في تفسير الانقراض الجماعي المفاجئ لكثير من الأنواع، الذي بدأ منذ نحو 2,900 سنة، والذي يُعرف بدراياس الأصغر Younger Dryas. وأدى ذلك إلى انقراض العديد من الحيوانات الكبيرة المعروفة بالحيوانات الضخمة، في حين أن مجتمعاً بشريّاً مبكراً يعرف بشعب الكلوفيس Clovis people اختفى تماماً من السجل الأثري. واقترح البعض تعرّض الكوكب لعصر جليدي، لكن الأسباب ليست واضحة تماماً. وأحد التفسيرات المحتملة هو أن ارتطاماً كبيراً تسبب في تبريد الكوكب- قد تكون فوهة هيواثا دليلاً على ذلك.
بالنظر إلى الوراء في تاريخ الأرض، نعلم أن الأحجار النيزكية الأخرى أدت دوراً رئيسياً في تطور كوكبنا. بالعودة إلى نشأة كوكبنا، قبل 4.54 بليون سنة، نعتقد أن الأحجار النيزكية ضربت السطح مراراً وتكراراً. وكل من الكويكبات والمذنبات غنية بالمياه، ولذلك ترى الفرضية الشائعة أن تلك الصخور كانت مسؤولة بالفعل عن جلب الماء الأولي إلى الأرض. وقد اكتشفنا أيضاً أن بعض الصخور الفضائية غنية أيضاً بمكونات الحياة، المعروفة بالمواد العضوية Organics. ومن ثمَّ نشأت الحياة على الأرض خلال ارتطام هائل وقع منذ زمن بعيد.
ثَمَّ هناك القمر. وعند دراسة العينات التي جلبتها بعثات أبولو Apollo في ستينات وسبعينات القرن العشرين، فوجئ العلماء بمعرفة أن الأرض وقمرها يتشاركان تواقيع كيميائية متشابهة. وقد دفع هذا العلماء إلى اعتبار أن القمر قد يكون في الواقع قطعة من الأرض نفسها، وهو ما يُعرف بفرضية الارتطام العملاق Giant-Impact Hypothesis.
وتتمثل الفكرة في أن جرماً ضخماً أطلق عليه اسم ثيا Theia، ربما بحجم كوكب المريخ، ارتطم بكوكبنا منذ نحو 4.5 بليون سنة. وأدى هذا الارتطام الهائل إلى قذف كمية هائلة من الحطام إلى مدار الأرض، تجمّع تدريجياً ليشكّل القمر. ومع ذلك، لا تزال هناك بعض الأسئلة، بما في ذلك كيف تمكن كوكبنا من النجاة من هذا الارتطام. ولكن في الوقت الحالي، هذه هي أفضل نظرية لدينا لتفسير كيفية تشكل القمر، حيث بدأ كل شيء بانفجار هائل. نحن على يقين من أن الارتطامات الأصغر على مدار تاريخ الأرض كانت لها أيضاً تأثيرات كبيرة في الحياة. وأحد أشهر هذه الأحداث كان ارتطام تشيكشولوب Chicxulub منذ نحو 66 مليون سنة. وتشير الفوهة الضخمة البالغ عرضها 180 كم في خليج المكسيك إلى ارتطام كبير لكويكب أو مذنب يصل عرضه إلى 15 كم، ولا يتبقى سوى أثر باهت يتمثل في هذه الفوهة المتبقية اليوم. ونفّذ مشروع للحفر لمحاولة الحصول على عينة من الفوهة بعد اكتشافها مباشرة في تسعينات القرن العشرين. ويُعتقد أن هذا الحدث مثّل نهاية العصر الطباشيري على الأرض، حيث أُبيد %75 من أشكال الحياة- بما في ذلك معظم الديناصورات، نتيجة لسلسلة من الكوارث العالمية الناجمة عن الارتطام.
الأرض، بالطبع، ليست الكوكب الوحيد في مجموعتنا الشمسية الذي تشكّل بفعل الارتطامات. قمرنا هو موطن حوض أيتكين Pole-Aitken Basin (القطب الجنوبي)، وهو فوهة شاسعة يبلغ قطرها 2,500 كم. ويعتقد أن فوهة أخرى توجد على سطح المريخ- وتعرف بيوتوبيا Utopia ويبلغ قطرها 3,300 كم- هي الأكبر على الإطلاق. وعلى مرِّ التاريخ، تعرضت جميع الكواكب للقصف بالأجرام، ولذلك فالأرض ليست استثناء.
وعلى الرغم من أن احتمال ارتطام كويكب بالأرض قد يكون مرعباً، إذ توجد أدلة كثيرة على أن هذه الأحداث كارثية؛ فقد ندين بنشأتنا لارتطام صخور فضائية بالأرض. ولحسن الحظ، لا نعلم بوجود أي كويكب يتقاطع مساره مع الأرض، والذي قد يؤدي إلى حدث ارتطامي كبير آخر، لكننا قد نواجه مثل هذا الاحتمال في المستقبل. تكتسب دراسة تاريخ كوكبنا واكتشاف فوهات جديدة مثل فوهة هيواثا أهمية حيوية لاستكشاف آثار هذه الارتطامات على كوكبنا ومعرفة فرص بقائنا في المستقبل. قد يعتمد وجود الحياة على الأرض يوما ما على العلماء الذين يدرسون الدمار الذي حدث في الماضي.