العلم المدهش لبقاء الحيوانات على قيد الحياة
تعيش الحيوانات حياة صعبة. لكن استخدام قوانين الفيزياء يساعدها على البقاء على قيد الحياة.
حياتنا نحن البشر سهلة؛ فإذا شعرنا بالجوع فسنجد متجرنا المحلي يوفر لنا أي شيء من التفاح إلى فطيرة الجبن المجمّدة. وإذا كنا في المنزل وشعرنا بالعطش فما علينا سوى السير عدة خطوات إلى الصنبور، ومن ثم الوصول إلى المياه العذبة النظيفة. وإذا شعرنا بالبرد، فيمكننا تشغيل المدفأة أو ارتداء قفاز آخر. وفي الوقت نفسه، لا شيء – على وجه العموم – يحاول أن يلتهمنا.
ليست الحيوانات محظوظة بهذا القدر- فعالمها أقل راحة بكثير. ولحسن الحظ أنها تستطيع استغلال قوانين الفيزياء للبقاء على قيد الحياة. وعلى سبيل المثال، فإن البعوض تتبع قوانين نيوتن في العواصف المطيرة، إذ تلتصق بقطرات المطر التي تصطدم بها، وتطير معها لتقليل قوة الاصطدام والبقاء على قيد الحياة بعد ذلك. كما يكتشف النحل الحقول الكهربائية المنبعثة من الازدهار للتحقق مما إذا كانت الزهرة تحتوي على مخزون كاف من الرحيق. وبهذه الطريقة يوفر النحل الوقت والطاقة أثناء سعيه إلى الحصول على هذا السائل السكري. ويستخدم جراد بحر كاليفورنيا تقنية الاحتكاك نفسها كعازف الكمان لخلق ضوضاء تكفي لإخافة الأسماك وغيرها من الحيوانات التي تود التهامه عندما يطرح درعه الواقي.
ومثل النحل الذي يستشعر المجالات الكهربائية، يمكن للحيوانات الأخرى أيضا اكتشاف أشياء لا ندركها. فتستخدم السلاحف المجال المغناطيسي للأرض في تنقلها، في حين يستخدم النمل والنحل والعديد من الأنواع الأخرى أنماطَ الضوء المُستقْطَب في السماء لتوجيه أنفسها. ويستطيع العديد من الطيور رؤية الأشعة فوق البنفسجية، وهي ذات تردد أعلى مما يمكن لعيوننا إدراكه. وتعني هذه المهارات الخارقة أنه يجب على علماء البيولوجيا توظيف قواعد الفيزياء لمعرفة ما تُدركه هذه الحيوانات.
وعلى طول الطريق، ساعدتنا الاكتشافات العلمية، مثل تلك المتعلقة بالضوء المُستَقْطَب، على التعمق فيما تفعله الحيوانات. وقد ساعدتنا الحيوانات بدورها على التوصل إلى عدد من الاكتشافات العلمية – مثلا أدت دراسة الثعابين الكهربائية دورا حاسما في اختراعنا للبطارية. وحتى اليوم، يعمل الباحثون المتخصصون في المحاكاة البيولوجية biomimicry على تقليد التصاميم الحيوانية لصنع طائرات صغيرة من دون طيار، وملابس السباحة الشبيهة “بجلد القرش”، وغيرها.
حارة أو لا؟
تؤدي الحرارة دوراً حيوياً للحيوانات؛ فإذا تعرضت لحرارة أو برودة مفرطة، فربما أن تموت
إذا سبحت يوماً في البحر في جوٍ بارد وعاصف، فستعرف مدى بشاعة غمر كامل جسمك في الماء البارد. وعندما تخرج من الماء، ستعرف مدى فظاعة أن تندفع إلى الشاطئ والماء يقطر من جسمك في حين تتبخر القطيرات التي تبقى على جلدك لتزيد من شعورك بالبرد. نحتاج – نحن البشر إلى أن نوجد ضمن حدود ضيقة من درجات الحرارة – فحتى بضع درجات أعلى أو أقل من 37 درجة مئوية يمكن أن تصيبنا بزيادة أو انخفاض حرارة الجسم. ولحسن الحظ، فنحن كائنات “ثابتة الحرارة” endotherms ويمكننا توليد حرارتنا الخاصة بحرق الطعام واستخدام عضلاتنا لنشعر بالدفء، على الرغم من أن المناشف الناعمة متوافرة أيضا.
تستطيع بعض الحيوانات، مثل الزواحف والفراشات والعث، أن تتحمل نطاقا أوسع من درجات الحرارة، ولكن “ذوات الدم البارد” هذه لا تستطيع توليد حرارتها الخاصة، لذا يجب أن تستلقي في الشمس للحصول على درجة حرارة مريحة. وهناك نوع من الثعابين التي تستقتل للحصول على الدفء إلى درجة أنها تلجأ إلى حيلة ماكرة جدا. تعرّف على الأفعى المخططة الحمراء الجانب، التي تعيش في مانيتوبا بكندا، حيث تنخفض درجات الحرارة في فصل الشتاء إلى – 40 درجة سيليزية، مما يُجبر تلك الحيوانات على الاحتماء في مخابئ تحت الأرض لمدة تسعة أشهر في السنة.
وبمجرد ظهور ذكور الثعابين في فصل الربيع، فإنها تستلقي بالآلاف في أكوام مرتفعة عملاقة- مثل طبق من معكرونة السباغيتي الملتوية – في انتظار خروج الإناث. لكن الإناث لا تتخيل أن تحيط بها عصابات من الذكور العاشقة فتفر منها إلى أبعد ما يمكنها.
ومع ذلك، عند اكتشاف كتلة من الثعابين، يبادر كل من الذكور الجدّد الخارجين من الجحر بتغطية نفسه بكيماويات جنسية تُدعى الفيرومونات، كي يخدع الذكور المنافسة لتظن ليظنوا أنه أنثى. تقفز الذكور الأخرى على ذلك الثعبان، معتقدةً أنه أنثى – أو “خنثى” بمصطلحات البيولوجيا.
لكن هذا الذكر لا يسعى إلى التزاوج؛ فهو ببساطة يبحث عن الدفء وبسرعة. تُعرف استعارة الدفء هذه بـ “سرقة الحرارة” Kleptothermy، إذ يمر كل ذكور الأفعى المخططة الحمراء الجانب بمرحلة الخنوثة. وذلك أمر منطقي، لأن الشعور بالبرد والسبات العميق يعني أن يصبح الثعبان هدفا للطيور التي تجوب سماء المنطقة بحثا عن وجبة خفيفة لذيذة. إذا كان البقاء على قيد الحياة يعني السرقة، فليكن.
كيف تجفف الكلاب نفسها
إذا ألقيت بعصا في النهر، فغالبا ما سيقفز كلبك الأليف إلى الماء مباشرة. لكن الكلاب مغطاة بالفراء، وتحتفظ تلك الشعرات بنحو نصف كيلوغرام من الماء، مما يجعل الكلب المسكين يشعر بالبرودة عند خروجه من الماء. وبدلا من الانتظار حتى تقوم حرارة جسمه بتبخير الماء، يقوم الكلب بتجفيف نفسه بتدوير عموده الفقري بسرعة ونفض طبقة الأنسجة اللينة الإسفنجية الموجودة بين جلده وعضلاته. ويمكن للكلب تدوير فرائه بزاوية 180 درجة – وهي عملية تتم ذهابا وإيابا وتعرف بـ “الحركة التوافقية البسيطة” التي تشبه طريقة حركة البندول أو الزنبرك. وتُظهر الاختبارات على كلاب لابرادور أنها تستطيع نَفض نحو 70 في المئة من المياه بهذه الطريقة، باستخدام طاقة أقل بنحو 5000 مرة مما يلزم لتبخير هذه الكمية من الماء. وتعدُّ هذه حيلة مفيدة للكلب، ولكن ليس لأي شخص يقف بجواره!
فيزياء السوائل
كيف تسير حشرات القَمَص على الماء وتطير النحلة الطنَّانة الضخمة
في العلم، تُعرف السوائل والغازات بالموائع: أي المواد التي يمكنها أن تتدفق. ويمكن لفيزياء السوائل أن تساعد على تفسير بعض المآثر التي تبدو خارقة، والتي تنفذها الحيوانات.
اجلس بالقرب من سطح بحيرة وقد تتمكن- إذا حدّقت بدقة كافية- من مشاهدة حشرة تسير على سطح الماء. إنها حشرة القَمَص، التي يوجد منها أكثر من 1700 نوع. وفي جسمها النحيل ذي اللون البني أو الأسود، تمتلك هذه الحيوانات الضئيلة ست أرجل نحيلة مثل العصي، والتي تباعد بينها بواقع ثلاث على كل جانب. وإذا نظرت إليها من كثب، فسترى أن نهايات أرجلها المسطحة تسبب انبعاج سطح الماء مثلما تفعل كرة البولينغ على حشية) مرتبة (. ويطلق بعض الناس على هذه الحشرات اسم “حشرات يسوع”، لكننا لا نحتاج إلى المعجزات لتفسير عدم تعرضها للغرق.
تُخبرنا مبادئ الفيزياء الأساسية بأن الحشرة لا تستطيع الجلوس على سطح الماء إلا إذا كان وزنها (السحب النزولي للجاذبية ) أقل من قوة السائل الذي يدفعها إلى أعلى. ولتجنب الغرق، تحتاج حشرة القمص إلى جعل تلك القوة الصاعدة كبيرة بقدر الإمكان. وكما ذكر أرخميدس العالم الإغريقي القديم، فإن القوة الصاعدة لجسم مغمور في الماء تساوي وزن الماء المزاح. ولكن بالنسبة إلى شيء يوجد على سطح السائل – وليس مغمورا فيه- تنطبق قواعد مختلفة.
ويرجع ذلك إلى أن سطح السائل غريب؛ فهو مشدود ونطاط مثل الترامبولين. وتعتمد القوة الصاعدة لجسم موجود على سطح سائل على قابلية الطفو تلك- أو التوتر السطحي- وعلى طول الجسم. لا يمكن لحشرة القمص تعديل التوتر السطحي، لكنها تستفيد من كون التوتر السطحي للماء أقوى من مثيله في أي سائل طبيعي آخر. ويكمن السر في أرجل الحشرة، والتي يبلغ طول نهاياتها نحو سنتيمتر واحد في العادة. ولكونها تقبع مسطحة على الماء، يزيد ذلك من القوة الصاعدة الإجمالية إلى مستوى أعلى بكثير من وزن الحشرة. والنتيجة أنها لا تغرق.
معظم حشرات القمص لها هامش سلامة واسع، لكن أكبر أنواعها غيغانتوميترا غيغاس Gigantometra gigas تقترب من هامش السلامة. وبكتلتها البالغة نحو ثلاثة غرامات، يزيد طول أرجلها على 20 سنتيمترا من أجل توليد قوة تصاعدية تكفيها للبقاء فوق الماء.
أما خارج الماء، فيمكن لفهم فيزياء السوائل أن يساعدنا أيضا على دحض خرافة رائجة: النحلة الطنانة ثقيلة جدا وأجنحتها أصغر من أن تسمح لها بالطيران من دون تحدي قوانين الديناميكا الهوائية. انظر فقرة “طيران النحل الطنان” لمعرفة المزيد.
أعمال الضوء
يمكننا – نحن البشر – أن نرى الألوان من الأحمر إلى البنفسجي، لكن الضوء أكثر بكثير مما تراه أعيننا. إذ يستطيع العديد من الطيور، إضافة إلى بعض الحشرات والزواحف والأسماك، اكتشاف الأشعة فوق البنفسجية ذات التردد العالي. وفي الوقت نفسه، يمكن لحيوانات أخرى أن تميّز بين ضوء الشمس “غير المُستقْطَب” unpolarised وأشعة الشمس التي تصبح “مُستقْطَبة” بعد الاصطدام بجزيئات في الغلاف الجوي. ويستغل بعض النمل الصحراوي الضوءَ المستقطب للعودة إلى مساكنه بعد العثور على الطعام في أسفاره، في حين تستخدمه النحل لإبلاغ رفاقها في الخلية بالاتجاه الصحيح للطيران للحصول على الرحيق.
ومثل الأشعة السينية، أو موجات الميكروويف أو أشعة غاما، فالضوء المرئي هو موجات كهرومغناطيسية تتكون من مجالات كهربائية ومغناطيسية متعامدة على بعض. وتتفاوت قوة الحقول صعودا وهبوطا مع تردد يمنح الموجة العديد من خصائصها. أما الضوء غير المستقطب فيشبه قطعة من الخيط الممدود بين شخصين – والذي يهتز، أولا من جانب إلى آخر، ثم من زاوية ما إلى الأفقي، ثم على زاوية مختلفة، مغيّرا اتجاهه مئة مليون مرة في الثانية. إذا قام الشخصان بتحريك الخيط الذي يمثل الحقل الكهربائي للموجة، في اتجاه واحد فقط – من جانب إلى آخر مثلا – فتُستقطَب الموجة.
يمكن لبعض الحيوانات أن ترى عبر الماء، حيث يتصرف الضوء على نحو مختلف عما يفعل في الهواء؛ فهو يتحرك ببطء أكثر؛ كما تميل جزيئات الماء إلى امتصاص الضوء ذي الترددات الأقل – أي درجات الأحمر والأصفر – أكثر مما تمتص تلك العالية التردد مثل درجات الأزرق والأخضر. ولهذا السبب قد ترى وجه رفيقك في الغوص يتحول إلى اللون الأخضر الشاحب كلما ازداد العمق الذي تغوص إليه. والأكثر من ذلك أن جزيئات الماء وجسيمات مثل العوالق تبعثر الضوء بحيث إنه، بالنسبة إلى الحيوانات تحت الماء، كثيرا ما تكون محاولة الرؤية أشبه بالتحديق عبر الضباب. وإذا غُصت إلى أعمق من ذلك، فستُمتَّص حتى درجات الأزرق والأخضر – ومن ثم تكون أعماق المحيطات حالكة السواد.
ومن بين الحيوانات المميزة نجد سمكة رامي السهام Archerfish التي تعيش بالقرب من أسطح الأنهار والبحيرات الاستوائية. وهي تصطاد الحشرات التي تعيش في الهواء، من ثم يتعين عليها أن تتعامل مع انحناء- أو انكسار- الضوء وهو يتحرك من الهواء إلى الماء وتتباطأ سرعته. فسمكة رامي السهام بارعة في تعويض الانكسار، فهي تنجح في أغلب الحالات في بصق بعض الماء على الهدف، فتقتله به على الفور.
شكرا لجهودكم وبارك الله فيكم
حياكم الله على ماتبذلوه من جهود لغرض المعرفة ونشرها