يرتفع هرم خوفو الأكبر إلى نحو 140 مترا فوق الصحراء المصرية، وهو آخر أعجوبة متبقية من عجائب العالم القديم، في صمت غامض بعد أكثر من 4,500 سنة. على مر القرون، ألهمت أسراره التي لا توصف الفضول والرهبة والحيرة بالقدر نفسه. باعتباره دليلاً على مهارات حضارة قديمة، فليس له مثيل. لسنوات، كان الهرم الأكبر محلاً موضع جدلٍ طويل ومحتدم، والتي اتخذ بُعداً جديداً على مر القرون. تشكك الباحثون في صحة النظريات القديمة وأثبت الآن أن بعض الحقائق التي كانت مقبولة على نطاق واسع هي مجرد خرافات.
لأكثر من 3,000 سنة، كان الهرم الأكبر أضخم بناء شيده البشر في العالم، ولكن من هم بالضبط الأشخاص الذين بنوه، من خلال العمل الشاق لسنوات في الحرارة والغبار، يوماً بعد يوم، لتشييد إرث دائم لمجد وعظمة فرعونهم؟ هل يمكننا حتى التأكد من سبب بنائه؟ صارت الأهرامات مقبولة عالمياً كمقابر للفراعنة. باعتباره المثوى الأخير للفرعون خوفو Khufu، وهو منصة في الهواء يمكن من خلالها أن ينطلق ارتقاؤه المجيد إلى الحياة الآخرة، يبدو أن الهرم الأكبر ليس استثناءً. ولكن هل هناك ما يدعو إلى التساؤل حول هذا الأمر، وإذا كان الأمر كذلك، فما هو؟
”ألهبت ضخامة الهرم وتعقيده خيال الخبراء العالميين“
ربما كانت الشرارة الأكبر في هذا الجدال كله ليست لماذا أو مَن، ولكن كيف؟ إن تنفيذ مهمة بهذا الحجم من قبل حضارة قديمة بأدوات بدائية جداً هو أمر مذهل. ألهبت ضخامة الهرم وتعقيده خيال الخبراء العالميين- من علماء المصريات Egyptologists والعلماء والمهندسين والمعماريين على حد سواء – مما أدى إلى طرح العديد من نظريات البناء المختلفة التي سعت جميعها لكشف أسرار الصرح الأكثر غموضاً على الإطلاق.
تعرّف على بناة الأهرام
كيف أن بناء الأعجوبة العظيمة لم يُنفّذ بالسُخرة كما يُعتقد
هرم سقارة المدرج هو أقدم
الأهرام المعروفة في مصر
كان المؤرخ الإغريقي هيرودوت Herodotus أول من أشار إلى العمل بالسخرة خلال زيارته لمصر في عام 450 قبل الميلاد. من وجهة نظره، لم يكن بالإمكان العثور على آلاف العمال المطلوبين لبناء مثل هذا الصرح بإرادتهم الحرة. من دون أي سجلات باقية لمعرفة القصة الحقيقية، ظلت هذه الفكرة عالقة حتى الآونة الأخيرة، تغذيها الإشارات إلى العبيد العبرانيين في سفر الخروج Book of Exodus. ألهبت قصة نبي الله موسى الذي قاد بني إسرائيل إلى خارج مصر خيال الجمهور بمساعدة العصر الذهبي للسينما.
لقد قلبت أبحاث علماء المصريات المحدثين، مثل مارك لينر Mark Lehner وزاهي حواس، هذه المعتقدات الرائجة رأساً على عقب وكشفت عن وجه أقل دراماتيكية وأكثر إنسانية لبناة الهرم الأكبر. كان علماء الآثار الأوائل مفتونين ومتحمسين تماماً مثل نظرائهم المعاصرين ووضعوا أسس الاكتشافات اللاحقة. لكنهم كانوا في الغالب مهتمين بالصورة الأكبر، أي الصروح المذهلة التي رأوها أمامهم وقوة وجلالة الفراعنة الذين تمثلهم. فلم يحظ البناء ولا العامل بكثير من الأهمية والاهتمام حتى نهاية العصر الفيكتوري. لكن كان لكل موقع بناء عماله، وخلال حياتهم يمكن أحياناً اكتشاف إجابات عن الأسئلة المحيرة.
فتح اكتشاف ”قرية“ العمال في موقع أهرامات الجيزة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نافذة على العالم العادي للرجال والنساء أثناء عملهم على بناء صرح غير عادي تماماً. يمكن للعناصر اليومية العامة أن تخبرنا بآلاف الكلمات، ومن هذا الاكتشاف ظهرت صورة جديدة. لا تُظهر هذه الصورة عبيداً يتعرضون للضرب من قبل طغاة لا يرحمون، بل عمال شرفاء وحرفيين مهرة، والذين كانوا يحصلون على تغذية جيدة، ويعملون بجد، ويتقاضون أجوراً مقابل عملهم ويُعاملون باحترام عند وفاتهم. ما صار واضحاً هو أنه من أجل تنفيذ مشروع كهذا، كان لابد من وجود انضباط وتنظيم واسع النطاق، وتنسيقاً بين مجموعات كبيرة من الحرفيين المهرة والعمال ومسؤولي الدعم في جهد ضخم موحد لتحقيق هدف واحد.
تُظهر أدلة الدفن تسلسلاً هرمياً للعمال في الموقع، من العمال الموسميين المؤقتين إلى عمال البناء المهرة، والإداريين والمشرفين، جنباً إلى جنب مع أفراد عائلاتهم. وزّعت عليهم حصص يومية من الخبز والجعة، وكذلك الأسماك وقطع اللحم الممتازة. فمن المنطقي أنه يلزم الاعتناء بأي قوة عاملة جيدة الانضباط، ومن المؤكد أن جيشاً من البنائين كان بحاجة إلى تغذية جيدة. وهناك أيضاً أدلة على احتواء الموقع على الرعاية الطبية وعلى أطباء ساعدوا على علاج قائمة واسعة من الأمراض. وكانت هذه الأمور حيوية بالنظر إلى العمل البدني الشاق لفترات طويلة بشكل مذهل، وجميع المخاطر التي ينطوي عليها ذلك.
ظهرت أيضاً أدلة على كيفية تنظيم العمال. تتباين التقديرات المتعلقة بالعدد الكامل للقوى العاملة من 10,000 إلى 20,000 - وهو أقل بكثير من الـ 100,000 التي قدّرها هيرودوت – إضافة إلى 20,000 عامل مؤقت أو بدوام جزئي كانوا يعملون في الموقع لمدة 3 إلى 4 أشهر في كل مرة، والذين عملوا لفترة تراوحت بين 10 إلى 20 سنة. لكن هذا كيف استُخدمت هذه الأعداد ونُظّمت بطريقة مكّنت من تنفيذ مثل هذا المشروع الضخم.
قسّم العمال إلى مجموعات مكونة من 2,000 عامل ثم انقسموا مرة أخرى إلى مهرة وغير مهرة، وهكذا حتى يشكل ما لا يقل عن 20 عاملاً فريقاً لها مهمة محددة وقائد فريق منوط بهم. كما نزعوا أيضاً إلى امتلاك هوية خاصة – تُظهر الكتابة على جدران هرم الجيزة الثالث بفخر أسماء ”أصدقاء منقرع“.
لكن الحياة لم تكن سهلة في موقع البناء. ظهرت نتيجة أخرى غير مستكشفة من قبل لعملية البناء – وهي توحيد مصر كأمة. وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا عبيداً مجبرين على الأشغال الشاقة، حسب الاعتقاد الخاطئ، إلا أن البنائين من بعض النواحي لم يمنحوا وقتهم بالمجان.
”قدّم الرجال عملهم بدلاً من الضرائب“
تُظهر سجلات القادة المحليين وجود التزام على الفرعون بتوفير الرجال اللازمين لتنفيذ مثل هذه المشروعات بالطريقة نفسها التي اعتمد بها الملوك الإقطاعيون على نبلائهم لتوفير الرجال المسلحين في أوقات الحروب. فهناك أيضاً احتمال لتقديم الرجال لعملهم بدلاً من الضرائب. توضح اختبارات الحمض النووي DNA على رفات عمال قرية الجيزة بوضوح أن القوى العاملة جاءت من جميع أنحاء مصر، لتلبية التزام ما واستجابة لنداء فرعونهم كإجلال لمليكهم المقدس.
نتيجة لذلك، اجتمع الرجال والنساء من جميع أنحاء المملكة معاً، فتشاركوا حياتهم، وتعلموا مهارات جديدة، وكوّنوا صداقات جديدة، وعادوا إلى ديارهم بشعور أكبر بالوحدة، بعد أن كانوا جزءاً من إرث دائم لحاكمهم القوي.
نقل الكتل على القوارب
ربما عاش العمال بجوار موقع البناء، لكن كيف نقلوا مواد البناء؟ يشير الخبراء إلى أن الغرانيت المستخدم في بناء الغرفة الداخلية للهرم الأكبر أتى من محاجر في أسوان، التي تقع على بعد 533 ميل جنوبي الجيزة. وفي الوقت نفسه، تطلبت الطبقة الخارجية للنصب التذكاري 170 ألف طن من الحجر الجيري. وتشير الأدلة الأثرية الجديدة إلى أنهم غيروا التضاريس، وأنشأوا نظام قنوات مخصصاً لنقل كل شيء.
عُثر على مخطوطة من ورق البردي في ميناء وادي الجرف البحري، والتي تزودنا بتقرير مباشر. تشرح البردية التي كتبها ميرير Merer، المشرف المسؤول عن فريق مكون من 40 عاملاً من النخبة، كيف نقلوا كتل الحجر الجيري التي تزن طنين لمسافة 8 أميال من محجر في منطقة طُرة Tura إلى الجيزة. وكانت الكتل توازن على قوارب خشبية، وتُربط بالحبال. يصف المشرف أيضاً كيف فتح طاقمه سدوداً عملاقة لتحويل مسار المياه من نهر النيل ووجهوها إلى الهرم عبر محطات مائية من صنع الإنسان. لتأكيد صحة السجل القديم، يعتقد مارك لينر،Mark Lehner عالم الآثار الأمريكي الذي ساعد على اكتشاف قرية العمال، أنه رسم خرائط للممرات المائية المفقودة أسفل هضبة الجيزة المغبرة.
بقلم: ديفيد ويليامسون
