بقلم: سكوت داتفيلد
ظلّ البشر يجوبون كوكب الأرض منذ نحو 300,000 سنة فقط، وهي فترة لا تُقارن بعمر الحياة على الأرض البالغ 4 بلايين سنة. وبعد أقل من 4 ملايين سنة من تشكّل الأرض، وقع حدث ما جمع مكوّنات الحياة معًا. ربما أدى ذلك إلى سلسلة متتابعة من التفاعلات البيولوجية، انتهت بظهور الحياة وانتشارها في كل أركان الكوكب. ولكن يبقى السؤال: أين بدأ كل ذلك؟ وكيف؟».
إذا سألتَ أحد علماء البيولوجيا، فمن المرجح أن يخبرك أن خلية واحدة تسمى السلف المشترك الشامل الأخير «لوكا» Last universal common ancestor (اختصارًا: السلف LUCA) هي أول كائن حي وجد على الإطلاق. يرجّح أن هذا الكائن النظري أحادي الخلية كان له غشاء بسيط واستخدم الحمض النووي RNA لتخزين المعلومات الوراثية، على نحو مشابه لوظيفة حمضنا النووي DNA. وربما بدأ «لوكا» كسلف أولي للخلايا الحية، يُعرف باسم «الخليّة الأولية» Protocell. وفي حين أن الخلايا البيولوجية مكتفية ذاتيًا وممتلئة بالجينات ويمكنها التكاثر، فإن الخلايا الأولية ليست سوى تجمُّع من المكونات غير الحية.
استغرق العلماء وقتًا طويلًا لتحديد عمر الخليّة الافتراضية الأولى، لكن في العام 2024، أضاف الباحثون 300 مليون سنة إلى التقديرات السابقة للعمر. ويُعتقد الآن أن الأصل السلفي لجميع أشكال الحياة يعود إلى نحو 4.2 بليون سنة مضت. وقد جاء هذا التاريخ الجديد نتيجة لمقارنة الطفرات الوراثية المشتركة بين 700 نوع حي من البكتيريا والميكروبات المعروفة باسم العتائق Archaea.
ربما وُلد «لوكا» من خليط محيطي من المركبات العضوية المعروفة باسم «الحساء البدائي» Primordial soup. طرحت نظرية
الخلوي بالمعلومات الوراثية
هذا الحساء الغني بالجزيئات العضوية القادرة على توليد الحياة لأول مرة في عشرينيات القرن العشرين، على يد الكيميائي الحيوي الروسي ألكسندر أوبارين Alexander Oparin، وعالم الوراثة البريطاني جون ب. س. هالدين John B.S.Haldane. تشير النظرية إلى أن ضربة برق أو إشعاع فوق بنفسجي قد سببت تفاعُل الميثان والأمونيا الموجودين في الغلاف الجوي مع مياه المحيط، مما أدّى إلى تكوُّن اللبنات الجزيئية أو المكونات «ما قبل البيولوجية» Prebiotic للحياة، مثل السكريات البسيطة والأحماض الأمينية والدهون. ولا أحد يعرف لماذا اجتمعت هذه المكونات معًا لتكوين بنية الخلية- بل ربما حدث ذلك تلقائيًا. لكن يعتقد العلماء أن الخلايا الأولية ربما نشأت من تكوُّن الحمض RNA المتكاثر ذاتيًا والذي صار مغلفًا بغشاء دهني، وبمرور الزمن تطور هذا الحمض ونما باستخدام البروتينات ليصبح خلية حية.
في العام 1952، أجرى الكيميائي الأمريكي ستانلي ميللر Stanley Miller
لبِنات بناء الحياة لماذا تُعَد المكوّنات المحددة التي شكّلت أول خلية حية ذات أهمية بالغة
1 السكريات البسيطة Simple Sugars لا يزال العلماء غير متأكدين من أين جاءت السكريات البسيطة، لكن كثيرين يعتقدون أنها نشأت على الأرجح من جزيء صغير يسمى الغليوكسيلات Glyoxylate.
2 الكربوهيدرات Carbohydrates عندما تتحد السكريات البسيطة بعضها مع بعض، تُشكّل الكربوهيدرات الخلوية التي تزود الخلية بالطاقة اللازمة للنمو والتكاثر.
3 الأحماض الدهنية Fatty Acids لا تزال أصول الأحماض الدهنية على الأرض غير معروفة. لكن البعض اقترح أن تكوينها مرتبط بالكربون الذي حملته الارتطامات النيزكية.
4 الغشاء Membrane عندما ترتبط الأحماض الدهنية بكحول يسمى الغليسرول Glycerol والفوسفات، فإنها تشكِّل غشاء يتحكم فيما يمكنه أن يدخل ويخرج من الخلية.
5 الأحماض الأمينية Amino Acids تتكون الأحماض الأمينية في معظمها من النتروجين، الذي ربما جُلب من مصادر النتروجين في الغلاف الجوي المبكر، مثل الأمونيا Ammonia.
6 البروتينات Proteins عندما ترتبط جزيئات الأحماض الأمينية بعضها مع بعض فإنها تشكل البروتينات، التي تنفذ الغالبية العظمى من المهام داخل الخلية، مثل الاستقلاب.
7 النوكليوتيدات NUCLEOTIDES يرجَّح أن تكون المواد الأولية للحمض DNA والحمض RNA قد نشأت من جزيئات غازية من سيانيد الهيدروجين Hydrogen cyanide.
8 الحمض DNA بوصفه دليل التعليمات الخاص بالخلية، يضع الحمض DNA القواعد الوراثية التي تُحدِّد كيفية عمل الخلية وتطوّرها.
تجربة لمحاكاة أصول الحياة، وذلك بعد اختبار نظرية الحساء البدائي. وبمساعدة هارولد يوري Harold Urey، تمكن الاثنان من تركيب الغلاف الجوي والمحيط المبكر داخل دورق تجريبي، ثم أضافا مصدرًا مستمرًا للطاقة لمحاكاة البرق. وبعد أسبوع من التجربة، اكتشف العلماء أن ما يصل إلى %15 من الكربون داخل الدورق قد تحوّل إلى مركّبات عضوية، إضافةً إلى الأحماض الأمينية. وعلى الرغم من أن التجربة نجحت في إنتاج بعض اللبنات الأساسية للحياة، لا يزال العلماء يتساءلون عن مصدر طاقة مماثل في الطبيعة يمكن أن يكون قد أدّى إلى هذه التفاعلات فعليًا.
في العام 2010، نشر فريق من الباحثين دراسة قلبت النظرية رأسًا على عقب. يقول ويليام مارتن William Martin، عالم البيولوجيا التطورية بجامعة هاينريش هاينه في دوسلدورف: «على الرغم من الإخفاقات في مجال الطاقة الحيوية والديناميكية الحرارية، فإن مفهوم الحساء البدائي الذي يعود تاريخه إلى 81 سنة لا يزال يشكل محورًا للتفكير السائد حول أصل الحياة. لكن الحساء لا يملك القدرة على إنتاج الطاقة الحيوية للحياة». وبدلًا من ذلك حوَّل عديد من العلماء انتباههم إلى مصدر محتمل آخر للحياة في أعمق أجزاء المحيطات.
يأتي بعض أقدم الأدلة على وجود الحياة على الأرض من أماكن لا يمكن لأغلب أشكال الحياة في العالم الحديث زيارتها أو حتى البقاء فيها. ففي أعماق قاع المحيط، حيث تتباعد الصفائح القارية بعضها عن بعض، تتصاعد أعمدة من الدخان الأسود من فتحات صخرية. تسمى هذه المداخن تحت الماء بالفوهات الحرارية المائية Hydrothermal vents، وتنفث مياهًا مفرطة الحرارة ورواسب سخّنها وشاح الأرض. وعلى الرغم من البيئة القاسية، يعتقد العلماء أن هذه قد تكون من بين الأماكن الأقرب احتمالا لنشوء الحياة.
تشبه الفوهات الحرارية المائية القدرَ تحت سطح البحر، حيث يمكن أن تختلط المكونات الحيوية الأساسية للحياة وتتفاعل معًا. عندما يتسرّب ماء البحر البارد عبر قنوات في قاع المحيط وصولًا إلى القشرة الأرضية، يُسخَّن ثم يُدفع إلى الأعلى ليندفع مرة أخرى داخل المحيط عبر هذه الفتحات. وعلى امتداد تلك الرحلة، تذوب في المياه غازات ومعادن تحتوي على الكربون والهيدروجين.
يشك العلماء في أن تغيرًا في درجة حموضة (الأس الهيدروجينيpH) الماء ربما ولَّد طاقة كيميائية كافية لتحويل ذرات ثاني أكسيد الكربون والهيدروجين في الماء إلى جزيئات معقدة من الأحماض الأمينية أو البروتينات. بعد دخول مياه المحيط الحمضية إلى فوهة حرارية، فإنها تخرج في هيئة سائل قلوي. وعند النقطة التي تلتقي فيها هذه المياه القلوية بمياه البحر الحمضية، يتشكل متدرج مشحون طبيعي، بالطريقة نفسها التي تولد بها البطارية الطاقة الكيميائية.
لكن إذا لم تنشأ الحياة من حساء بدائي أو تنبثق من قاع المحيط، فهل يحتمل أنها حُملت جوًا من الفضاء؟ منذ زمن الفلاسفة الإغريق، فكّر العلماء في احتمال أن تكون الحياة قد نشأت في كوكب آخر، ثم وجدت طريقها إلى الأرض. وقد أُطلِق على هذه النظرية المتعلقة بأصل الحياة خارج الأرض اسم البانسبيرميا «التبزر الشامل» Panspermia. تشير نظرية البانسبيرميا إلى أن الحياة منتشرة في أنحاء الكون، وقد تكون وصلت إلى الأرض متنقِّلة على جسم ما حملها معه. أما عن «سائق» تلك الرحلة الكونية، فهناك نظريتان علميتان: الأولى تُعرف باسم «التلوث الحجري الفضائي» Lithopanspermia، وتفترض أن ارتطام الأرض بنيزك يحمل كائنات حية هو ما أوصل الحياة إليها؛ والثانية تُعرف باسم «التلوث الإشعاعي الفضائي» Radiopanspermia، وتفترض أن كائنات ميكروبية مبكرة قد اندفعت عبر إشعاع النجوم نحو أسطح الأجرام السماوية، بما في ذلك الأرض في مراحلها الأولى.
على مرّ السنين، اكتشف العلماء أدلّة قد تشير إلى أن للحياة أصلا خارج الأرض- فقد وُجدت جزيئات عضوية، مثل الأحماض الأمينية والسكريات، في عينات من النيازك. ومع ذلك لم يُعثَر على دليل فعلي يُثبت انتقال الحياة عبر النيازك بين الكواكب. لكن فكرة وجود الحياة في الفراغ الفضائي ليست بعيدة الاحتمال؛ فمنذ العام 1998، حين بدأ تجميع محطة الفضاء الدولية International Space Station (ISS) في المدار، وُجدت بكتيريا تعيش على سطحها الخارجي. ربما انتقلت تلك البكتيريا من الأرض خلال إطلاق الصواريخ أو في أثناء سير أحد روّاد الفضاء خارج المركبة. وتُعرَف هذه الكائنات باسم «البكتيريا المحبة للظروف القاسية» Extremophiles، والقادرة على البقاء في بيئة الفضاء القاسية. وقد درس العلماء أنواعًا مختلفة من البكتيريا التي وصلت إلى الفضاء، فوجدوا أن بعض الأنواع تستطيع البقاء على قيد الحياة، والتكاثر، والنمو في تلك البيئة.
هل نشأت الحياة من الطين؟ في العام 1985، اقترح الكيميائي غراهام كيرنز- سميث Graham Cairns-Smith أن بلورات الطين ربما وفرت بيئة مناسبة لازدهار الحياة المبكرة. وفي كتاب كيرنز- سميث المثير للجدل بعنوان «سبعة أدلة على أصل الحياة»
تنظيم جزيئات الحمض DNA
Seven Clues to the Origin of Life، أشار إلى أن بنية هذه البلورات قد يمكنها احتجاز الجزيئات على سطحها وترتيبها بطريقة تُشبه بنية الحمض DNA. وبعد فترة من الزمن تُنفذ هذه الجزيئات ما يُسمّى “الاستحواذ الجيني” Genetic takeover، فتبدأ في التكاثر ذاتيا. وعلى الرغم من أن نظرية الطين قدّمت تفسيرًا بديلا لأصل الحياة، فإنها لم تحظ بقبول واسع في الأوساط العلمية.