لمعظمنا، تجلب عبارة “الذكاء الاصطناعي” Artfiicial intelligence إلى الأذهان على الفور صورة لنهاية الكون. فقد رأينا جميعا على الشاشة الفضية أن البشرية توسّع انتشارها فيما وراء نطاق سيطرتها، والنتيجة واحدة دائما. وكل ما يلزم هو قيام أحدنا بصنع آلة يمكنها أن تفكر حقا- والتي يمكنها الإحساس بالشعور و “الاستيقاظ” – وحينئذ تكون نهاية البشرية. فماذا لو لم تُعجب هذا الجهاز الذكي طريقة عملنا للأشياء؟ ماذا لو كانت لديه أفكار أخرى؟ تمخضت أفكار مثل هذه عن العديد من روايات الخيال العلمي الرائعة على مرِّ السنين، لكن على الرغم من ما قد يصوره فيلم “المُنهِي Terminator”، فقد يكون الذكاء الاصطناعي أقدر على مساعدتنا من الإضرار بنا. لكن بالرجوع إلى العلماء المتمكنين وخبراء التكنولوجيا مثل ستيفن هوكينغ وإيلون ماسك فإنهم يحذرون من المخاطر المحتملة للذكاء الاصطناعي، فمن المعقول أن يثير شكوك.
لفهم كامل الإمكانات المذهلة للذكاء الاصطناعي، علينا أولا محو العديد من المفاهيم الخاطئة حول هذا الحقل المثير من التكنولوجيا. وبادئاً ذي بدء، علينا النظر في الكيفية التي يمكننا بها صنع آلات ذكية، والكيفية التي تفكّر بها. صيغ مصطلح ” الذكاء الاصطناعي” في عام 1956، وصار يمثل طيفا واسعا من القدرات الحاسوبية. وتطرح هذه العبارة كثيرا من قبل شركات التكنولوجيا التي تعرض أحدث منتجاتها، لكن هذا “الذكاء” متنوع بشكل مذهل من حيث ما يمكنه تحقيقه. ففي معظمه، صار الذكاء الاصطناعي وسيلة مغرية لوصف برنامج حاسوبي متطور، لكن بعضها حواسيب قادرة على التعلم حقا. وأكثرها تطورا تلك المقتصرة حاليا على البورصة، وعالم الأبحاث العلمية، أو ممارسة ألعاب الحاسوب المتزايدة التعقيد دائما. وقد تظن أن التنبؤ بالقيمة الصافية لشركة ما، وبناء النماذج باستخدام الشيفرات الوراثية وأن تصير بطلا في ألعاب الحاسوب تتطلب جميعها أنواعا مختلفة تماما من الذكاء الاصطناعي، لكن يمكن تحقيق الأمور الثلاثة معا باستخدام البنية الأساسية نفسها. ويعمل الذكاء الاصطناعي الحقيقي وفقا لمبدأ التعلم الآلي؛ الذي سنستكشف أنواعه المختلفة في هذا الملف. وتختلف البرامج الحاسوبية التي تعمل باستخدام التعلم الآلي بشكل ملحوظ عن معظم البرامج الأخرى، لأنك لا تحتاج إلى إبلاغها بطريقة عمل شيء ما – لكنك ستُريها ذلك عمليا. تخيل أنك تريد برنامجا حاسوبا يمكنه اكتشاف الشذوذات في صور الأشعة المقطعية للدماغ. وباستخدام برنامج تقليدي، سيكون عليك كتابة مجموعة محددة وشديدة الدقة من القواعد التي يمكنه استخدامها. لكن مع برنامج للتعلم الآلي، ما عليك إلا أن تُريه بضعة آلاف من صور المسح الدماغي الطبيعية وبضعة آلاف من صور المسح الدماغي الشاذة، ومن ثم السماح للبرنامج بتعليم نفسه كيفية التعرف على الشذوذات. فمن المؤكد أن لهذا الأسلوب من التعلم الآلي أفضلية على البرامج التقليدية، إذ إن الحاسوب قد يصبح أفضل حتى من مبرمج بشري في أداء المهمة الموكلة له. فالجزء الأكثر إثارة هنا هو أن العلماء يقومون حاليا بتطوير برامج مثل هذه.
لكن أنواع الذكاء التي يمكنها مساعدتنا في حياتنا اليومية ليست مخصصة فقط لعالم الغد في الواقع أننا نستمتع بالفعل بفوائد الذكاء الاصطناعي. ومن برنامج كورتانا Cortana لمايكروسوفت إلى الخدمات الهائلة التي تقدمها غوغل وفيسبوك، تعمل هذه البرامج الذكية خلف الكواليس لتوجيهنا عبر شبكة الإنترنت. وهي تُحاط علما باهتماماتنا، وما نُحبه وما نكرهه، وتخصّص إعلاناتها وتوصياتها لكل واحد منا، وهي ماهرة في ذلك حقا. ومع ذلك، فعلى الرغم من كل ما يمكنها عمله، فلا تزال هذه تمثل ما يمكن تسميته “بالذكاء الاصطناعي الضيّق”. ويعني هذا أنها ماهرة جدا في إنجاز مهمة واحدة محددة- أفضل بكثير مما يمكن للبشر عمله على الإطلاق- لكنها غير قادرة مطلقا على القيام بأي شيء آخر.
والخطوة التالية في رحلة الذكاء الاصطناعي هي خلق ذكاء اصطناعي متعدد الأغراض. ومن هنا ستصبح الأمور مثيرة جدا، أو مخيفة جدا، اعتمادا على من تسأله. وسيكون الذكاء المتعدد الأغراض أقرب بكثير إلى الذكاء البشري من أنظمة الذكاء الاصطناعي الموجودة اليوم، وسيمكنه التعلّم وحلّ المشكلات المختلفة وتنفيذ مهام متنوعة. وفي الوقت الحالي، ما زلنا بعيدين تماما عن تحقيق هذا الحلم، لكن برنامج ألفاغو AlphaGo من شركة غوغل ديبمايند DeepMind هو حاليا أفضل ما توصلنا إليه. فقد استخدم برنامج الذكاء الاصطناعي هذا شبكته العصبية العميقة لهزيمة أعظم لاعبي لعبة “غو” في العالم، وهو لي سيدول. وقد اعتبرتُ هذا لحظة تاريخية للذكاء الاصطناعي، إذ إن هناك حرفيا كونتيليون (1810) حركة محتملة في لعبة “غو”، ومن ثمَّ يستحيل برمجة كل منها في أحد الحواسيب. وبدلا من ذلك، صُمم ألفاغو بحيث يكون ذكيا، ويمكنه لعب “غو” ضد نفسه مرات عديدة والتعلم من أخطائه. وبعد تمرّنه على اللعبة لملايين المرات، صار ماهرا بما فيه الكفاية لمنازلة البطل وجها لوجه، بل والانتصار عليه.
لبرنامج ألفاغو إمكانات مذهلة. ويتحدث صانعوه بحماس عن تطبيق البرنامج لمهاراته لمساعدة الخبراء الطبيين، والسماح لبرنامج الذكاء الاصطناعي هذا بالمساعدة على إنقاذ الأرواح، كما يتضح أن طريقته المتنوعة في التعلم قد تمثل أساسا لكثير من الآلات الذكية.
وفي ضوء تقنياتنا الحالية، فهذا مفيد جدا، لكن الذكاء الاصطناعي المحدود هو أقصى ما يمكننا بلوغه. ويرجع هذا لأننا في مسيرة الذكاء الاصطناعي المتعدد الأغراض نحو الذكاء ذي المستوى البشري، فسنحتاج إلى حواسيب متزايدة القوة دوما؛ وعلينا أن نخترع شيئا يمكنه أن ينافس قوة معالجة الدماغ البشري.
لكننا لن نكون بشراً إذا لم نواجه التحدي، ويعكف العلماء حاليا على صنع حواسيب جديدة يمكنها بلوغ قدرات فائقة. وتعرف هذه بالحواسيب الكمّية، وهي تستفيد من الخصائص”العصبية” للطبيعة لكي تعمل بطرق مذهلة؛ فالسرعة التي يمكنها بها إجراء الحسابات مدهشة.
هناك طريقة جيدة لمقارنة الحاسوب العادي بحاسوب الكمّ، وهي تخيّل مركز متاهة. فعندما تكون المهمة هي الهروب، سيجرب الحاسوب العادي مسارا منفردا في كل مرة، حتى يتبع الطريق الصحيح ويتمكن من الهروب. لكن الحاسوب الكمّي يمكنه البحث في جميع المسارات في الوقت نفسه؛ مما يعني أنه أسرع وأقوى بكثير، وقد يمثل مفتاح تحرير قوة تعادل، أو تتفوق على، قدرة الدماغ البشري عند دمجها في برامج الذكاء الاصطناعي المتطورة. لا يسعنا إلا أن نتساءل عما ينتظرنا خارج متاهة الحوسبة الكمّية؛ فقد نصل إلى ذكاء يعادل الذكاء البشري، أو حتى يفوقه. بل قد نحقق ذكاء فائقا يتجاوز قدراتنا المعرفية. وقد يبدو هذا مثيرا ومخيفا على حد سواء ، لكن لا ينبغي لنا أن نقلق بشأن هذا المستقبل المحتمل كما يفعل كثيرون – وذلك بالطبع بشرط أن نتقدم بشكل معقول. ولن يشكل الذكاء الاصطناعي الفائق خطرا علينا بحد ذاته؛ أو على الأقل ليس بالطريقة التي نفكر بها. وفي العديد من السيناريوهات المروعة التي صورتها الروايات، نجد آلات الذكاء الاصطناعي تفكر مثلنا، بل وتشعر مثلنا أحيانا. وهي تتشارك طموحاتنا ومطالباتنا بالحرية والهيمنة. لكن هذا لن يكون الحال في الواقع. ويعمل العقل الحاسوبي بشكل مختلف تماما عن عقلي وعقلك، وسينطبق هذا حتى على الدماغ الاصطناعي البالغ الذكاء.
من السهل أن نتصور أنه أيا كان ذلك الكائن الذكي فسيود الارتقاء إلى قمة السلسلة الغذائية، وخاصة إذا فكرنا في كيفية وصولنا إلى ما نحن عليه. لكن الحواسيب ليست من نواتج التطور؛ مما يعني أنه سيكون لديها القليل من القواسم المشتركة معنا. وتأتي جميع رغباتنا واحتياجاتنا من مخططنا الجيني، ولحسن حظنا (وربما من حسن حظ الآلات أيضا) أنها ستتحرر من هذه الرغبات. وقد يكون من المربك التفكير في ذلك؛ فمن الصعب أن نتصور شيئا خارج منظورنا الخاص. لكن الحاسوب لن يوجد إلا لتنفيذ برامجه، ويعني هذا أيا كان ما نأمره بتنفيذه. ومن ثمَّ فلا داعي للقلق بهذا الشأن.
لكن هذا لا يعني للأسف أننا في جانب الأمان تماما. تخيل أننا تمكنّا في يوم ما من صنع ذكاء فائق، وأمرناه بمساعدتنا على تحويل المريخ إلى وطن مناسب. قد يمكنه إيجاد حلول كانت ستستغرق منا قرونا للتوصل إليها بأنفسنا، وقد يساعدنا على جعل حلمنا حقيقة واقعة. لكنه قد يقرر أيضا أن أفضل طريقة لإعادة تأهيل المريخ هي أخذ الغلاف الجوي للأرض ومواردها ونقلها إلى هناك. وسيُنفِّذ الذكاء ما يؤمر به، لكن ذلك سيضر بنا. فالتأكد من فهمه لما نطلبه بشكل صحيح قد يمثل الفرق بين وصول البشرية إلى النجوم وتعرضها للانقراض.
أما التهديد الثاني للذكاء الاصطناعي فهو أشد إلحاحا، وهو استخدام قوته في التغلب على تحدٍ مختلف هو فك الشيفرات. وإذا وقع جهاز شديد الذكاء في أيدٍ شريرة، فيمكن تدريبه على اختراق جميع أنواع البرامج المحمية بكلمة مرور. ومن ثمَّ يتعين علينا الحذر الشديد بشأنه. ولكن على الرغم من هذه المشكلات المحتملة، فبوسع الذكاء الاصطناعي تحويل حياتنا نحو الأفضل.
إن وجود عضو ذكي، وقادر متفان في فريق العمل يمثل أحد الأصول الثمينة لأي فريق، سواء كان ذلك الذكاء بشرياً أو غير ذلك. وتحقيقا لهذه الغاية، يمكن للذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب أن يعمل إلى جانبنا ويساعدنا في العديد من الصناعات، بما في ذلك الاتصالات، والطيران التجاري، والطب، وفي وقت لاحق في الدفاع العسكري واستكشاف الفضاء. وقد يصبح الذكاء الاصطناعي مفيدا جدا لدرجة أنه يرجح أن يثبت فعالية أكبر منا في تنفيذ مهامنا الوظيفية، لذا قد يُستبدل البعض منا في نهاية المطاف. وهذا يشملك بالفعل؛ فعند صدور العدد 199 من مجلة “كيف تعمل الأشياء”، قد تقرأ مجلة بُحثت وكُتبت ورُجعت بالكامل من قبل آلات ذكية.
ويتفق معظم الخبراء على أن صعود الذكاء الاصطناعي سيُحدث تغييرات كبيرة في العديد من مجالات العمل. لكن الآراء منقسمة حول السؤال الذهبي: هل سيمكننا في أي وقت بناء ذكاء اصطناعي واعٍ؟ اليوم، لدينا الرفيق الذكي والجذاب كوزمو – وهو روبوت صغير يحب لعب الألعاب. وهو يحتفل عندما يفوز ويتأوه عندما يخسر، وفي جميع الأحوال يظل لطيفا بقدر الإمكان. وهو يمثل بداية عظيمة، ولكن هل يمكن في يوم ما أن نمتلك رفقاء عاطفيين حقا؟ هل يمكننا امتلاك ذكاء اصطناعي يمكنه التفكير من تلقاء نفسه، والذي يمتلك روح المبادرة: “أنا أفكر، إذن أنا موجود!”
وسيمثل هذا الاختبارَ النهائي للذكاء الاصطناعي، وفضلا عن كونه مهمة صعبة التنفيذ، فهو اختبار ينطوي على الصعوبة نفسها لتحديد ما إذا كنا صنعنا الوعي بالفعل، أم مجرد شيء يحاكيه بصورة مقنعة جدا. ومنذ أكثر من نصف قرن، صمّم رائد الحاسوب المفكر آلان تورينغ اختبارا ما زلنا نستخدمه اليوم كمعيار لقياس الذكاء الاصطناعي. وينطوي اختبار تورينغ أساسا على لجنة من القضاة الذين يجرون محادثة عبر شبكة الحاسوب إما مع أي شخص آخر أو مع برنامج حاسوبي. وفي أحد أشكال الاختبار، إذا خُدع ما لا يقل عن %30 من القضاة للاعتقاد أن البرنامج الحاسوبي كان شخصا حقيقيا بعد محادثة مدتها خمس دقائق، فسيعتبر البرنامج “ذكيا”. ومن المثير للإعجاب أن هذا قد تحقق بنجاح في عام 2014 من خلال برنامج يسمى “يوجين غوستمان”، وتمكن من إقناع %33 من أعضاء لجنة التحكيم بأنه صبي يبلغ من العمر 13 عاما. لكن اعتباره ذكيا يختلف عن كونه واعيا، لذلك فمن غير المرجح أننا سنتمكن ببساطة من استخدام اختبار تورينغ لقياس الشعور. وهذا تحد آخر يجب علينا التغلب عليه، إذ إننا الآن لا نعرف ببساطة كيف نحدّد ما إذا كنا صنعنا كائنا عاطفيا بالفعل. ربما لا نعرف في الحقيقة أبدا ما إذا كان أصدقاؤنا الآليون المستقبليون واعين حقا، حتى ولو نجحنا في صنعهم. لكن ما أهمية ذلك لو كانوا مشابهين لنا لدرجة يصعب معها تفريقهم عنا؟ ولكن، هناك شيء واحد من الآمن أن نقوله: عندما نتمكن من صنع “حياة” اصطناعية، ستولد في عالم شديد الاختلاف عن ذلك الذي نعرفه اليوم. وسيكون المستقبل الذي سيعرفه مستقبلا تُدار فيه العديد من الوظائف والجوانب المهمة للمجتمع من قبل الآلات. ولذلك، فإن الذكاء الاصطناعي قد يتولى زمام القيادة في نهاية المطاف، لكن ليس بالطريقة التي قد نتوقعها تماما. وقد بدأ بالفعل عصر الذكاء الاصطناعي، وستزداد وتيرة التقدم في هذا المجال باطراد. لكن السؤال الوحيد المطروح هو كيف سيؤثر فينا.