داخل حزام الكويكبات
تخلو الفجوة بين المريخ والمشتري من الكواكب، ومن المدهش أنها مثيرة للاهتمام لهذا السبب
الكويكبات Asteroids هي كتل من الصخور يتراوح حجمها من مئات الأميال إلى بضعة أمتار، وتدور حول الشمس ككواكب صغيرة. على الرغم من أن بعض أكبر الكويكبات له شكل كروي تقريباً، إلا أن معظمها غير منتظم المظهر. حتى الآن، اكتُشف أكثر من مليون كويكب – يقع معظمها في حزام الكويكبات Asteroid belt الرئيسي الموجود بين مداري المريخ والمشتري. يعد حزام الكويكبات أحد أهم ملامح المجموعة الشمسية، حيث يرسم الحدود بين نوعين مختلفين من الكواكب: الكواكب الداخلية الصخرية، عطارد والزهرة والأرض والمريخ، والكواكب الخارجية العملاقة، المشتري وزحل وأورانوس ونبتون. وهو أيضاً أوسع بقعة في المجموعة الشمسية تخلو من الكواكب تماماً، فيمتد بين مداري عطارد ونبتون.
مثّل غياب الكواكب في المنطقة الواقعة بين المريخ والمشتري لغزاً للفلكيين الأوائل، وكان العديد منهم مقتنعين بضرورة وجود كوكب غير معروف حتى الآن هناك. بحلول نهاية القرن الثامن عشر، صار البحث عن هذا الكوكب المفقود أشبه بمباراة بين مجموعات متنافسة من علماء الفلك. وكان الفائز الظاهر هو جوزيبي بياتسي Giuseppe Piazzi من مرصد باليرمو في صقلية، الذي اكتشف جرماً يشبه الكوكب في المنطقة المناسبة في أول يناير 1801، لكن الشكوك حول صحة اكتشافه تصاعدت بصورة شبه فورية من ناحية، فالجرم الجديد – الذي أطلق عليه بياتسي اسم سيريس Ceres - بدا أصغر من أن يكون كوكباً حقيقياً. ومن الناحية الأخرى، لم يكن سيريس وحده. على مدى السنوات القليلة التالية، اكتشف الفلكيون 3 أجرام أخرى – هي بالاس Pallas وجونو Juno وفيستا Vesta – في المنطقة نفسها من الفضاء. ما اكتُشف لم يكن الكوكب ”المفقود“ المتوقع، فهو غير موجود أصلاً، بل شيئاً جديداً تماماً للعلم: حزام الكويكبات. بحلول عام ،1850عُثر على 10 أجرام هناك، واكتشف أكثر من 200 جرم آخر في العقود الثلاثة التالية. بحلول القرن العشرين، اكتُشف الكثير من الكويكبات التي تمت الإشارة إليها بـ”هوام السماء“ Vermin of the sky، وتوالت الاكتشافات الجديدة حتى يومنا هذا.
لبعض الكويكبات أقمار
صغيرة تدور حولها
هناك، عموماً، أنواع متعددة من متنوعة الكويكبات وفقاً لبنيتها الكيميائية. النوع الأكثر شيوعاً، والذي يشمل أكثر من ثلاثة أرباع جميع الكويكبات المعروفة، هو الكويكبات الكربونية Carbonaceous، أو النوع C. وتنتشر هذه بشكل خاص في المناطق الخارجية من حزام الكويكبات. أما المنطقة الداخلية، فتحتوي على المزيد من الكويكبات السيليكونية Siliceous أو النوع S؛ في حين توجد الكويكبات المعدنية Metallic، أو النوع M في المناطق الوسطى من حزام الكويكبات.
ليست كل الكويكبات محصورة في حزام الكويكبات الرئيسي بين مداري المريخ والمشتري. ففي حين تميل الكويكبات هناك إلى التحرك في مدارات شبه دائرية، يبدو أن البعض الآخر قد تحوّل إلى مدارات أصغر وأكثر إهليلجية تنقلها لما وراء المريخ، وصولاً إلى الأجزاء الداخلية من المجموعة الشمسية، وهو قريب بما يكفي من مدارات الكواكب الداخلية – بما فيها الأرض – لأن يشكل خطراً للاصطدام أحياناً. يعتقد العلماء أن هذه الكويكبات المارقة نشأت بالفعل في حزام الكويكبات الرئيسي، لكنها انحرفت لاحقاً بسبب تأثيرات الجاذبية الهائلة لكوكب المشتري العملاق على مداراتها الحالية اللامتراكزة (غير متحدة المركز) Eccentric.
تُمثل جاذبية المشتري مفتاحاً مهماً لفهم المظهر الحالي لحزام الكويكبات. ربما نشأ الحزام في وقت مبكر جداً من تاريخ المجموعة الشمسية – بعد بضع عشرات الملايين من السنين من تكوّن الشمس -عندما كان الجزء الداخلي بكامله من المجموعة الشمسية ممتلئاً بأجرام صخرية تشبه الكويكبات. اندمج الكثير من هذه الأجرام في نهاية المطاف لتشكيل كواكب عطارد والزهرة والأرض والمريخ – لكن الغموض الحقيقي هو لماذا لم ينتج من العملية نفسها كوكب آخر مشابه بين كوكبي المريخ والمشتري. يبدو أن السبب الرئيسي لذلك هو أن السَحب القوي لجاذبية المشتري يحرّك الأجرام في حزام الكويكبات باستمرار مما يمنع أي تشكّل لكواكب إضافية. وإضافة إلى ذلك، فعلى الرغم من العدد الكبير من الكويكبات المنفردة، فإن الكمية الفعلية للمادة في هذه المنطقة من الضآلة بحيث لا تشكل جميع الكويكبات مجتمعة سوى نحو 4% من كتلة القمر. يرجّح أن تُعزى ندرة المادة هذه إلى تأثيرات كوكب المشتري أيضاً، والذي جرّد ببطء حزام الكويكبات الأصلي من معظم كتلته.
ما كثافة حزام الكويكبات؟
بالنظر إلى وجود ملايين الأجرام في الحزام، فمن المغري تصوّره ك مكان مزدحم وشديد الاكتظاظ. هذا ما يظهر كثيراً في روايات الخيال العلمي وحتى الصور العلمية. ولكن حزام الكويكبات يشغل مساحة هائلة، لذلك تنتشر كل هذه الأجرام عبره على مسافات متباعدة جداً. وعند رؤيتها من أحد الكويكبات، يرجّح أن يكون أقرب جار لها من البُعد بحيث يتعذر رؤيته من دون تلسكوب. وتعني الفجوات الهائلة بين الكويكبات أيضاً أنه من غير المحتمل تماماً أن تصطدم مركبة فضائية تمر عبر حزام الكويكبات بأي شيء أكبر من حبة من الغبار بين الكواكب.
نظريات تطورية
حزام مضطرب Disrupted belt
إذا تشكّل كوكب كبير شبيه بالمشتري على أطراف نظام كوكبي ثم ارتحل إلى الداخل عبر حزام الكويكبات، فسيوجه المواد إلى الكواكب الداخلية. يرجّح أن تمنع الارتطامات نشأة الحياة على هذه الكواكب.
حزام المجموعة الشمسية Solar system belt
هذا هو الوضع في مجموعتنا الشمسية: لقد تحرك المشتري قليلاً إلى الداخل، لكنه توقف خارج حزام الكويكبات الرئيسي. مكّن ذلك الكواكب من البقاء مستقرة وغير مضطربة.
حزام كثيف Dense belt
لو لم يكن المشتري قد تحرك إلى الداخل على الإطلاق، لكان حزام الكويكبات الناتج أشد كثافة. يرجّح أن المواد المنفصلة عنه كانت ستقصف الكواكب الداخلية بانتظام، مما يمنع بدوره نشوء أي حياة عليها.
أكبر أجرام حزام الكويكبات
نعلم الآن أكثر بكثير مما كنا نعرفه قبل بضع سنوات عن أكبر الأجرام في حزام الكويكبات بفضل دراسة أجريت في عام 2021 واستخدمت بيانات من التلسكوب الكبير جداً Very Large Telescope (اختصاراً: التلسكوب VLT) التابع للمرصد الأوروبي الجنوبي لتوصيف تراكيبه الثلاثية الأبعاد. على وجه الخصوص، قاست الدراسة قطر الجرم وكثافته وتسطيحه – وهذا الأخير هو نسبة أصغر أبعاده إلى أكبرها. وكان أكبر جرم، كما هو متوقع، هو الكوكب القزم سيريس، البالغ قطره 584 ميلاً، وكثافته 2.2 غم/سم3 ونسبة تسطيح .0.92يعني اقتراب نسبة التسطيح من القيمة 1.0 أن سيريس كروي نسبياً، على الرغم من أن هيجيا Hygiea، الذي تبلغ نسبة تسطيحه 0.94، أكثر استدارة. كان أكثر الأجرام استطالة التي قاستها الدراسة هو كليوباترا، فلم تزد نسبه تسطيحه على 0.18، في حين كان أشدها كثافة هو الكويكب سايكي Psyche الغني بالمعادن، فبلغت كثافته 3.9 غم/سم3.
زيارة إلى حزام الكويكبات
صمّم العديد من بعثات وكالة ناسا السابقة والمخطط لها لاستكشاف هذا الجزء من المجموعة الشمسية
”ساهمت المركبة الفضائية داون في زيادة فهمنا لكيفية تشكّل الكواكب الصغيرة المبكرة“
سايكي هو واحد من أضخم الأجرام في حزام الكويكبات، حيث يبلغ قطره نحو 140 ميلاً، كما أنها من أكثر الأجرام إثارة للاهتمام لأنه يبدو مؤلفاً في معظمه من المعادن. هذا هو السبب الرئيسي وراء اختيار وكالة ناسا لها كوجهة لبعثتها التالية إلى حزام الكويكبات، والتي سيُطلق عليها أيضاً اسم سايكي. في حين ستستخدم الكاميرات لتُظهر لنا كيف يبدو الكويكب، ستحمل المركبة الفضائية سايكي أيضاً عدداً من الأدوات العلمية لفحص تركيبه السطحي، والذي يُعتقد أنه يشمل الحديد والنيكل والسيليكون والأكسجين. تشبه هذه المكونات ما يوجد في لب كوكب صغير، وقد تكون هذه بالضبط هي بنية الكويكب سايكي، الذي جردت طبقاته الخارجية بسبب الارتطامات التي وقعت في بواكير تاريخ المجموعة الشمسية.
إضافة إلى استكشاف الكويكب لمعرفة كل ما قد يخبرنا به عن تكوّن الكواكب، فإن بعثة سايكي لها أيضاً هدف ثانوي يتمثل باختبار تقنية جديدة تسمى ”الاتصالات البصرية للفضاء العميق“ Deep-space optical communication، والتي تستخدم أشعة الليزر تحت الحمراء لنقل الرسائل بين المسبار والأرض، مما يسمح بنقل المزيد من البيانات في وقت بعينه أكثر من الاتصالات اللاسلكية التقليدية.
كانت الخطة الأصلية لوكالة ناسا هي إطلاق مركبة الفضاء سايكي في عام 2022، لكن هذا لم يكن ممكناً بسبب مشكلات التأسيس المتعلقة ببرمجيات الطيران لدى الوكالة. ويتمثل الأمل الآن بإطلاقها في أكتوبر 2023، ومن ثم وضعها في طريقها للوصول إلى الكويكب الذي يحمل الاسم نفسه في أغسطس .2029
ديب سبيس وان
أطلق ديب سبيس وان Deep Space 1 التابع لوكالة ناسا في أكتوبر 1998، واستخدم شكلاً جديداً من أشكال الدفع الأيوني يسمى الدفع الشمسي الكهربائي Solar-electric propulsion، حيث تأتي الطاقة من مصفوفة كبيرة من الألواح الشمسية. فهذا النهج، الشائع الآن في مهمات الفضاء العميق، يحقق وفورات جماعية كبيرة مقارنة بطرق الدفع التقليدية. وإضافة إلى عرض التكنولوجيا الجديدة بنجاح، حلقت ديب سبيس وان حول مذنب وكويكب. هذا الأخير، المسمى برايل Braille، يتحرك في مدار لا متراكز من داخل مدار المريخ إلى المناطق الخارجية لحزام الكويكبات الرئيسي.
لوسي
أطلق المسبار لوسي Lucy probe التابع لوكالة ناسا في أكتوبر 2021، لدراسة عدد من الكويكبات -لكن معظمها لا يقع في حزام الكويكبات الرئيسي. ويطلق على هذه اسم ”كويكبات طروادة“ Trojan asteroids، وهي تتشارك المدار نفسه حول الشمس مع كوكب المشتري، على الرغم من أنها تنقسم إلى مجموعتين تتحركان أمام الكوكب نفسه وخلفه. لكن الوجهة الأولى للمسبار لوسي، خلال تحليقه إلى كويكبات طروادة، هي كويكب صغير يقع ضمن الحزام الرئيسي ويُدعى دونالدجوهانسون Donaldjohanson، على اسم صياد الأحافير الذي اكتشف الهيكل العظمي لسلف بشري من عصور ما قبل التاريخ، والذي أطلق عليه اسم لوسي. يتوقع أن تصل المركبة الفضائية إلى هناك في عام .2025
المركبة الفضائية دون
أطلقت دون Dawn في عام 2007، ولا تزال أهم بعثات وكالة ناسا إلى حزام الكويكبات حتى الآن. باستخدام تقنية محرك أيوني Ion drive technology تُشبه المستخدمة في ديب سبيس وان، زارت أكبر جرمين في الحزام – سيريس وفيستا – وبدلاً من مجرد التحليق فوقهما، أمضت وقتاً في الدوران حولهما حتى تتمكن من دراستهما بالتفصيل. عند وصولها إلى فيستا في يوليو 2011، دارت المركبة داون حول هذا الكويكب لمدة 14 شهراً قبل الانتقال إلى الكوكب القزم سيريس، حيث وصلت إليه في مارس.2015 لا تزال المركبة في مدارها حلوه حتى الآن، على الرغم من انتهاء بعثتها النشطة في عام 2018 عندما نفد وقودها.
أبرز ملامح بعثة دون
تزودنا عالمتان شاركتا في هذه البعثة الكبرى إلى حزام الكويكبات بانطباعاتهما
عندما وصلت المركبة دون إلى كويكب فيستا، هل بدا كما توقعتما؟
بدا فيستا مألوفاً جداً نظراً لأنه رُصد على نطاق واسع باستخدام التلسكوبات. أظهرت بيانات تلسكوب هابل حفرة عملاقة بالقرب من القطب الجنوبي لفيستا. كشف فحص المركبة داون عن وجود حوضين ارتطاميين Impact basins متداخلين، أحدهما قديم جداً والآخر أصغر نسبياً. كان فيستا معروفاً بسطوعه الشديد، لكن اكتُشفت بقعة داكنة غنية بالمعادن الرطبة، وهي بقايا جرم غني بالكربون ارتطم بالكويكب في الماضي.
هل سيريس يشبه فيستا؟
يختلف سيريس وفيستا من نواحٍ أساسية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى توقيت ومكان تشكّل كل منهما. تشكل فيستا في وقت مبكر جداً في المجموعة الشمسية الداخلية وشهد ذوباناً، مما تركه جافاً، كما تمايز إلى لب Core، وعباءة Mantle، وقشرة Crust. أما سيريس، فقد تشكّل بعد أقل من مليوني سنة في المجموعة الشمسية الخارجية من مادة غنية بالجليد ولم يتعرض لدرجات حرارة عالية بما يكفي لإذابته. مع تطور سيريس، نتج من التفاعلات بين الصخور والمياه طبقة ملحية شاملة تحت سطحه أسفل قشرة غنية بالجليد والمعادن الشبيهة بالطمي. تنتج البقع اللامعة من المواد التي تنتشر على السطح الأملس نسبياً لسيريس عن السوائل الملحية الجوفية.
كيف أسهمت المركبة دون في فهمنا لحزام الكويكبات؟
أسهمت المركبة دون في تحسين فهمنا لكيفية تشكّل الكواكب الصغيرة المبكرة. تدعم هذه النتائج فكرة أن الكواكب الأولية الكبيرة تشكلت بسرعة من الغيوم المنهارة في القرص الكوكبي الأولي Protoplanetary disc. يرجّح أن العديد من الكويكبات الغنية بالمياه، إن لم يكن كلها، قد انتقلت من مناطق أبرد. ويوفر اكتشاف نشاط للسوائل الملحية على سيريس، والذي استمر حتى الأزمنة الحديثة قيوداً جديدة على كيفية تطور الأجرام الجليدية الكبيرة الأخرى وأنها قد تشكّل بيئات صالحة للسكنى.
بقلم: أندرو ماي