بقلم: جاكي سنودن
بحلول نهاية القرن العشرين ظلت أماكن قليلة على الأرض مجهولة. ومنذ عصر الاستكشاف طوّر البشر سُبلاً لعبور المحيطات واستكشاف القارات من أجل شق طرق للتجارة وتوسيع الإمبراطوريات. وفرضت المساحات الشاسعة المتجمدة في القطبين تحديات قاسية لكنها لوّحت بحوافز مختلفة: الإغراء الذي لا يقاوم لاستكشاف المجهول ومجد الوصول إليه أولاً.
بيري مقابل كوك
يقع القطب الشمالي الجغرافي عند خط عرض +90° درجة على جرف سميك من الجليد البحري. ويتحرك البحر المتجمد حسب المواسم، حيث يرتحل عبر القطب الشمالي بشكل مخاتل جدا. ويواجه المستكشفون أيضاً درجات حرارة متدنية يمكن أن تنخفض إلى 50- درجة سيليزية، ورياح تصل سرعتها إلى 90 كم/الساعة، واحتمال أن تلتهمهم الدببة القطبية. وبعد عدة حملات فاشلة في أوائل القرن التاسع عشر، أعلن في عام 1909 عن بعثتين ناجحتين إلى القطب الشمالي نفذهما مستكشفان أمريكيان. والغريب أنه أبلغ عنهما بفارق أسبوع واحد بينهما.
ادّعى الأول، وهو الدكتور فريدريك كوك Frederick Cook مصحوباً بصيادين من مواطني غرينلاند، أنهم وصلوا إلى القطب في 21 أبريل 1908. وغادر الفريق من أنواتوك في غرينلاند، في فبراير 1908 وقطع ما متوسطه 24 كم في اليوم باستخدام زلاجات تجرها الكلاب، إضافة إلى قارب قابل للطي لعبور المياه عند الضرورة. وفقاً لمذكرات كوك، فقد استخدم سُدسيَّة Sextant لتحديد خط عرضه وحساب موقعه عند «نقطة هي أقرب ما يمكن» إلى القطب الشمالي. ومع ذلك، فقد أدت رحلة العودة المحفوفة بالمخاطر فوق الجليد المتكسر والمنجرف إلى تأخير عودتهم إلى الحضارة، ومن ثمَّ لم يتمكنوا من إرسال أخبارهم إلى الوطن لمدة 14 شهراً أخرى.
وفي أغسطس 1908، بينما كان كوك مفقوداً، ويُفترض أنه مات انطلق زميله السابق، الرائد في البحرية الأمريكية روبرت بيري Robert Peary، في رحلته القطبية التاسعة. وباستخدام ما عرف بـ«نظام بيري Peary system»، استقل فريقه المؤلف من 50 رجلاً زلاجات تجرها الكلاب لإجراء عملية تتابع لإسقاط الإمدادات على طول الطريق. وعلى عكس كوك، لم يصطحب فريق بيري أي قارب، لذلك فعند تكسّر الجليد كانوا يُتركون أحياناً وقد تقطعت بهم السبل لعدة أيام حتى تغلق الفجوات مرة أخرى. وخلال تحركهم كانوا يقطعون في المتوسط 21 كم في اليوم. وأخذ بيري قياسات منتظمة بالسدسية للتأكد من أنه لا يزال يتجه إلى الشمال. وفي 6 أبريل 1909، سجل خط عرض يزيد بقليل على +89° درجة وكتب في دفتر يومياته، «وصلنا إلى القطب أخيراً! […] حلمي وطموحي لمدة 23 عاماً، وصار ملكي أخيراً».
كان الإعلان عن نجاحهما متزامناً تقريباً بسبب تأخر كوك في العودة إلى الوطن ورحلة عودة بيري السريعة على نحو ملحوظ. وأعلنت قصة كوك في 2 سبتمبر 1909، في حين نشرت قصة بيري في 7 سبتمبر، لكن إنجازاتهما طغى عليها العداء المرير الذي أعقب ذلك. وعلى الفور تقريباً، رفض بيري ورعاة بعثته الاعتراف بمحاولة كوك. حتى إن بيري نقل الأمر إلى الكونغرس لجعل الحكومة تعترف رسمياً بإنجازاته بدلاً من ادعاءات كوك.
وحتى يومنا هذا، هناك شكوك حول ادعاءات كل من كوك وبيري. وأعيد فحص حسابات المستكشفين وأية أدلة متبقية من كلتا البعثتين عدة مرات. وقد أثيرت أسئلة حول دقة قياسات خطوط الطول لكلا الرجلين وسرعات السفر المبلغ عنها وحالات الإغفال غير المعتادة في يومياتهما. ومن غير المحتمل أن نحصل على إجابة قاطعة بخصوص مدى اقتراب كل منهما فعلياً من القطب الشمالي، ومن منهما وصل أولاً – إذا كان أيهما قد وصل إلى القطب بالفعل.
بعد مرور أقل من سنتين على ظهور إنجازات كوك وبيري لأول مرة في عناوين الصحف، بدأت الاستعدادات لسباق قطبي آخر وجهاً لوجه على الجانب الآخر من العالم. وفي يناير 1911 وصل فريقان من المستكشفين إلى القطب الجنوبي وكلاهما مصمم على أن يكون أول الواصلين إلى القطب الجنوبي.
أموندس ضد سكوت
يقع القطب الجنوبي الجغرافي عند خط عرض ْ-90 على واحد من أقسى الأماكن مناخا على هذا الكوكب. والقارة القطبية الجنوبية هي أبرد مكان على الأرض، حيث سجّل الرقم القياسي لأدنى درجة حرارة ملحوظة (عند مستوى سطح الأرض) بلغت -89.2 درجة سيليزية. ويتراوح سُمك الجرف الجليدي الداخلي بين 2-4 كم، لذلك قد يتعرض المستكشفون لأمراض المرتفعات أثناء محاولتهم عبور القارة. وتتعرض القارة القطبية الجنوبية أيضاً لبعض أعتى الرياح في العالم؛ وقد تتعرض مناطق معينة لعواصف تزيد سرعتها على 198 كم/الساعة. إضافة إلى ذلك، فإن القارة محاطة بأقسى وأعتى المياه على الكوكب- أي المحيط الجنوبي- لذلك واجه الفريقان مخاطر كبيرة قبل أن تبدأ بعثتاهما.
وقاد الحملتين المتنافستين القبطانُ النرويجيُّ روالد أموندسن Roald Amundsen والقبطان البريطاني روبرت فالكون سكوت Robert Falcon Scott، وكلاهما من المستكشفين المشهورين بالفعل. وسبق أن ارتحل سكوت عبر القطب الجنوبي خلال البعثة الاستكشافية للفترة 1901-1904 مع زميليه المستكشفين إرنست شاكلتون Ernest Shackleton والدكتور إدوارد ويلسون Edward Wilson، حيث وصلوا إلى خط العرض -82° درجة، وهو أقرب إلى القطب مما بلغه أي إنسان من قبل. وحصل سكوت على 20,000 جنيه إسترليني من الحكومة لتمويل البعثة الاستكشافية الجديدة، وحظيت استعداداته بكثير من الاهتمام الإعلامي.
وبينما كانت نوايا سكوت بخصوص البعثة علنية، أبقى أموندسن خططه القطبية سرية. وكان بصدد تنظيم بعثة استكشافية إلى القطب الشمالي عندما حطمت مزاعم بيري وكوك حلمه مدى الحياة بأن يكون أول من يصل إلى القطب الشمالي. وبدلاً من التخلي عن البعثة تماماً، عدّل خططه لمحاولة الوصول إلى القطب الجنوبي بدلاً من ذلك. حتى طاقم أموندسن كانوا يظنون أنهم متجهون إلى القطب الشمالي حتى كشف لهم الحقيقة في الطريق.
وصل فريق سكوت إلى القارة القطبية الجنوبية في 4 يناير 1911 في كيب إيفانز Cape Evans. واثناء إعدادهم لمخيّم القاعدة والتحضير للمضي قدماً، لم يكونوا على علم مطلقا بأن طاقم أموندسن قد هبط على بعد 640 كم فقط في خليج الحيتان في 14 يناير. وأمضى الفريقان معظم السنة في التحضير للبعثتين، وإلقاء مستلزمات الإمداد على طول طريق كل منهما قبل الانطلاق في ربيع القطب الجنوبي- أموندسن في 20 أكتوبر وسكوت في أول نوفمبر.
أدت الاختلافات الرئيسية بين تكتيكات ومعدات الطاقمين إلى تحقيق النجاح لأحدهما وتعرّض الآخر لمأساة. ضم فريق أموندسن الصغير والمتخصص أبطالاً في التزلج ومدربي كلاب خبراء. واستخدموا زحافات معدلة خصيصاً، وفراء الذئاب، وبذلات مقاومة للرياح، وكانوا على دراية بارتداء طبقات ملابسهم بشكل فضفاض لتجنب التعرق المفرط- وهي نصيحة تعلّمها أموندسن من الإنويت خلال بعثة سابقة إلى القطب الشمالي. وقد وصلوا إلى القطب الجنوبي في 14 ديسمبر وعادوا بأمان إلى معسكر القاعدة في 25 يناير 1912.
كان فريق سكوت أقل خبرة في التعامل مع كل من الطقس البارد والتزلج، فجلبوا خيول البوني وزلاجات آلية، لكن سرعان ما اتضح أن ذلك كان خطأ جسيما، فكلاهما لا يمكنه تحمّل الظروف المتطرفة للقارة القطبية الجنوبية؛ فتعطلت الزلاجات وتخلوا عنها، وأطلقوا النار على الخيول المنهكة في نهاية المطاف لأكل لحومها. وقد وصلوا إلى القطب في 17 يناير 1912، فأصيبوا بصدمة أليمة عندما وجدوا العلم النرويجي مثبتاً هناك بالفعل بقوة.
عانى فريق سكوت من سوء التغذية والجوع ولسعة الصقيع وانخفاض حرارة الجسم، حيث انخفضت درجات الحرارة إلى نحو -30 درجة سيليزية و-40 درجة سيليزية. لم ينج أي منهم ليتمكن من العودة إلى معسكر القاعدة. ونفد مخزون سكوت من حصص الإعاشة والوقود وحوصر في خيمته بسبب عاصفة ثلجية، وعلى الرغم من أنه كان على بعد بضعة أميال عن مخبأ للإمدادات. وقد كتب مقالته الأخيرة المأساوية في 19 مارس، وجاء فيها «سنظل صامدين حتى النهاية، لكن قوانا تخور، بطبيعة الحال، ولا يمكن أن تكون النهاية بعيدة. يبدو ذلك مثيرا للشفقة، لكنني لا أعتقد أنني أستطيع أن أكتب المزيد».
أرسل أموندسن كلمة عن نجاحه التاريخي في 7 مارس 1912، وتم الترحيب به على النحو الواجب كبطل. ومع ذلك، فقد تلاشى مجده لاحقاً عندما علم العالم بمصير سكوت ورجاله الذين اعتبروا شهداء.
كما هي الحال مع بيري وكوك، أعيدت دراسة بعثتي أموندسن وسكوت على مدار السنوات الماضية، ليس بسبب الخلاف حول ما إذا كانا وصلا إلى القطب الجنوبي أم لا، ولكن لتحديد مزيج العوامل التي أدت إلى فشل سكوت.
نهاية حقبة
كانت هاتان البعثتان الرائدتان في أوائل القرن العشرين من بين آخر ما صار يعرف بالعصر «البطولي» للاستكشافات القطبية. وأُعجب الناس بأولئك الرجال لإصرارهم المطلق على مواجهة تلك الظروف القاسية بموارد محدودة؛ مما دفع قوتهم البدنية والعقلية إلى أقصى حد خلال سعيهم إلى الخلود.
اقترب عصر الاكتشافات الشجاعة هذا من نهايته بعد الحرب العالمية الأولى، عندما جعلت التطورات التقنية والهندسية تنفيذ مثل هذه الرحلات، من الناحية النسبية، مهمة أسهل بكثير.