بمنظره وهو يجرّ محراثا عبر حقل قاحل في حرارة منتصف النهار باستخدام شدة من الحبال المربوطة عبر صدره، كان من الواضح أن الدكتور نورمان بورلوغ ليس عالما تقليديا. فقد تخلى الرجل عن حياته المريحة في ديلاوير في عام 1944، تاركا حياة عائلية دافئة لينام على الأرض في مخزن موبوء بالجرذان في أحد حقول القمح المكسيكية. فلم يكن يستطيع قيادة سيارته إلى البلدة سوى مرة واحدة أسبوعيا، كما عاش ظروفاً غير مريحة، حيث أصابته المياه رديئة الجودة بنوبات منتظمة من الدوسنتاريا.
وطوال 16 عاماً بعدها، كرّس حياته لحل مشكلات إنتاج القمح التي تعصف بالبلاد وتدريب جيل كامل من العلماء الشبان، محدثا ثورة في الإنتاج الزراعي في جميع أنحاء العالم. وتحول بورلوغ من عامل مزرعة في أيوا إلى رائد “الثورة الخضراء،” فأدى التزامه وتفانيه إلى إنقاذ حياة عدد لا حصر له من البشر في جميع أنحاء العالم في سعيه إلى إنهاء المجاعة في العالم.
ومنذ سن السابعة عمل بورلوغ في مزرعة عائلته في أيوا، حيث قضى أيامه في صيد الحيوانات والسمك وتربية الماشية، إضافة إلى زراعة الذرة والشوفان. فقد كان تعليمه محصوراً في مدرسة ريفية من غرفة واحدة ومعلم واحد في هاورد كاونتي، ولكن من هذه البدايات المتواضعة انطلق بورولغ لتغيير العالم.
وبعد تخرجه في جامعة مينيسوتا في عام 1937، أجرى دراسات على العاطلين عن العمل ضمن مشروعات فيدرالية. وبدأ العمل كاختصاصي في الميكروبيولوجيا لدى شركة دوبونت في ويلمنغتون، ديلاوير- وذلك لإجراء أبحاث على المبيدات الصناعية والمواد الحافظة، قبل تحويل مختبره إلى محطة أبحاث بسبب هجوم بيرل هاربور في عام 1941. وعمل بورلوغ في القوات المسلحة الأمريكية حتى عام 1944، عندما قَبِل وظيفة اختصاصي في الوراثيات وعلم أمراض النبات لقيادة البرنامج التعاوني لبحوث وإنتاج القمح في المكسيك. وفي جميع أنحاء البلاد شاهد بورلوغ أرضا قاحلة جردت تماما من المغذيات بعد قرون من الحرث. وسعى مشروعه إلى إنتاج محاصيل تتلاءم مع تحديات التربة المحلية. وقد بدأ استكشاف إمكانات زراعة سلالة من القمح المقاوم “لصدأ القمح،” وهو مرض فطري قد يدمر المحاصيل. وفي غضون 20 عاماً، نجح بورلوغ في تطوير قمح عالي الغلة ومقاوم للأمراض؛ مما أحدث ثورة في إنتاج الغذاء العالمي.
وكانت البذور الناتجة معجزة، فإنتاجيتها العالية تزيد على ضعفي أو ثلاثة أضعاف غلة المحاصيل التقليدية عند استخدام الأسمدة الكيماوية. ولكن، يكتف بورلوغ بمجرد العمل في الحقول وداخل مختبره، بل برز كمحسن يوزّع السلالات الجديدة لإطعام الجائعين في جميع أنحاء العالم. وأدت اكتشافاته وابتكاراته إلى تحسن هائل في الإنتاجية الزراعية، والذي اجتاح العالم في ستينات القرن العشرين. ومكنت هذه الثورة بلداناً مثل بنغلاديش والهند وباكستان من تجنب المجاعة وبناء اقتصاد قائم على تصدير الحبوب. وحررت أبحاثه ملايين البشر من براثن الجوع. وفي عام 2009 توفي بورلوغ في دالاس بتكساس، عن عمر ناهز 95 عاماً، ويمكن القول إنه ساعد على إنقاذ البشر أكثر من أي شخص آخر في تاريخ البشرية.