أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم التطبيقية

داخل مـحـطّم الذرات

امضِ في رحلة إلى مسرع الجسيمات واكتشف التجارب التي تحل لغز أسرار الكون

بقلم: جاك غريفيثس

في أعماق الأرض في الغرب الأوسط الأمريكي، تستخدم مشروعات رائدة تكنولوجيا الجسيمات المتطورة لفحص المواد تحت الذرية الضئيلة. ومن منشأة تحت الأرض، تُبث نبضات جزيئية قوية عبر الولايات في كل ثانية بسرعة الضوء تقريباً. والسبب؟ محاولة معرفة سبب وجودنا. مرحباً بكم في مختبر فيرمي لاب Fermilab.
يعتبر مختبر مسرع فيرمي الوطني للجسيمات بالقرب من شيكاغو، إلينوي، أول مختبر أمريكي لفيزياء الجسيمات العالية الطاقة. وقد بدأ تشغيله في 15 يونيو 1967، وهو واحد من 17 مختبراً وطنيّاً تديرها وزارة الطاقة الأمريكية. ويعكف موظفوه حاليّاً على تحديد مواقع ودراسة الجزيئات الغامضة المعروفة بالنيوترينوات Neutrinos، وهي جسيمات أولية تحت ذرية، تشبه الإلكترون أو البروتون، باستثناء أن لديها كتلة أقل ولا تمتلك شحنة كهربائية. لا يمكنك رؤيتها أو الشعور بها أو سماعها أو شمها، لكن النيوترينوات موجودة في كل مكان حولنا، وهي تمر بجسمك بوتيرة سريعة - 100,000 بليون منها في الثانية تقريباً.
وقد يعمق حل أسرارها معرفتنا بأصول المادة. ولا يمكن رؤية النيوترينوات بالعين المجردة، لكن قد تكون لها أهمية حيوية لكيفية عمل الكون. ويُعتقد أنه كانت هناك كميات متساوية من المادة وضديد المادة Antimatter (وهي جسيم شريك له الكتلة نفسها ولكن شحنة كهربائية معاكسة) بعد فترة وجيزة من الانفجار الكبير Big bang الذي شكّل الكون. وبعد ذلك صارت المادة أكثر وفرة من ضديد المادة؛ مما سمح بتشكّل الذرات والنجوم والكواكب والبشر. يمكن لمسرعات الجسيمات في مختبر فيرمي لاب بثّ كل من النيوترينوات وضديدات النيوترينو Antineutrinos، وهي مقابل ضديد المادة، ولذلك إذا وجد اختلاف في كيفية سلوك النيوترينوات وضديدات النيوترينو، فقد يساعد ذلك في شرح الكيفية التي تطور بها الكون بحيث انتهى من دون ضديد المادة.
تُنشأ النيوترينوات طبيعياً في المفاعلات النووية الهائلة للشمس، أو عند تحوّل نجم إلى سوبرنوفا، لكن يمكن إنتاجها أيضاً في محطات الطاقة النووية وباستخدام مسرّعات الجسيمات، مثلما يحدث في مختبر فيرمي لاب. ولمحاولة تحليل هذه الجسيمات النادرة، أنشئ العديد من المشروعات في مختبر فيرمي لاب. وكان أولها مشروع «دونات» DONUT في أواخر تسعينات القرن العشرين، تلاه مشروع «مينوس» MINOS في عام 2005. بدأت تجربة نوفا للنيوترينوات NOvA Neutrino Experiment في عام 2014 فزادت من سقف التوقعات- فهي واحدة من أكبر التجارب في جميع العصور.
يُطلق مسرّع (مُعجِّل) الجسيمات المستخدم في تجربة نوفا حزمة من البروتونات إلى كاشف يبعد أكثر من 800 كم في آش ريفر Ash River، مينيسوتا. ولا تحتاج الجسيمات إلى نفق للمرور عبره؛ لأنها ببساطة تمر عبر الأرض مباشرة. ويمتلئ هذا الكاشف البالغ وزنه 14,000 طن بألياف موصلة للضوء، تسجل الطاقة من النيوترينوات التي تصطدم بالجسيمات الأخرى. وجنباً إلى جنب مع الألياف، هناك 344,000 خلية من البلاستيك العاكس تمتلئ بنحو 11 مليون لتر من السائل الصافي الذي يضيء عندما تتلامس الجسيمات. ويستخدم المرفق تقنية بردية Cryogenic technology لحفظ الآلات عند -15 درجة سيليزية، وهي درجة حرارة التشغيل المثلى. والكاشف ضخم جدا بحيث لزمت آلة نقل فريدة لنقل الكتل الـ28 المكونة له، والبالغ وزن كل منها 200 طن.
يحلل مشروع نوفا كيفية تغيّر النيوترينوات أو «تذبذبها» Oscillate متحولة إلى أنواع مختلفة. ولا تترك النيوترينوات أي أثر تقريباً، ونادراً ما تتفاعل مع بعضها البعض أو مع الجسيمات الأخرى. ويقوم مسرع الجسيمات بقذف البروتونات، التي ترتطم بعد ذلك عند مستويات عالية جدّاً من الطاقة إلى الهدف في آش ريفر. ويُنشئ هذا جسيمات قصيرة العمر تتحلل لاحقا لصنع نيوترينوات. وعندما تصطدم النيوترينوات بجسيمات أخرى، يتلقى كاشف آثار التفاعلات، ومن ثم يفحصها علماء الفيزياء لمقارنتها بالإحصائيات السابقة. ويبحث العلماء عن اتجاهات في البيانات لفهم ما تفعله النيوترينوات وكيفية تصرّفها.
من أهم الإنجازات التي حققها الفيزيائيون معرفة أن هناك أنواعاً أو «نكهات» مختلفة من النيوترينوات- يسمى كل منها بالجسيم ذي الشحنة الكهربائية الذي ترتطم به.
تنتمي النيوترينوات إلى عائلة الجسيمات اللبتونية، ومثل اللبتونات Leptons هناك ثلاثة أنواع منها- النيوترينوات الميونية Muon Neutrinos، والنيوترينوات الإلكترونية Electron neutrinos، والنيوترينوات التاوية Tau neutrinos.
تنتج النيوترينوات الإلكترونية عندما يصطدم النيوترينو بإلكترون، مثلاً. وأثناء انطلاق النيوترينوات عبر الشعاع، فهي تتغير بين الأنواع الثلاثة بصورة متكررة، فتبدأ كنيوترينوات ميونية، وكثيراً ما تتذبذب متحولة إلى نيوترينوات إلكترونية وتاوية. ويشبه تذبذب النيوترينو تحول قطعة من الفاكهة إلى خضار عندما تغادر السوق المركزي، أو تحول هذه المجلة إلى كتاب قبل أن تعود إلى منزلك. وسيكون فهم سبب حدوث ذلك مفتاح فهمنا للنيوترينوات.
هل هناك مرحلة نهائية لمشروع نوفا؟ لقد ساعد على زيادة المعرفة العلمية لتذبذب النيوترينوات وعزز البحث عن نوع رابع منها. وتتعاون كل من يونيفيرسيتي كوليدج لندن University College London وجامعة ساسكس Sussex University في المملكة المتحدة مع المشروع عن طريق المساعدة على تحليل التذبذبات. وسيواصل مشروع نوفا جمع البيانات حتى عام 2024، بعد عشر سنوات من انطلاقه، وسيستبدل حينئذ بمشروع جديد تماماً يسمى «ديون» DUNE.
بدأ العمل في مشروع «ديون»، وهو اختصار «تجربة النيوترينوات عميقا تحت الأرض» Deep Underground Neutrino Experiment، في يوليو 2017. وسيكون المشروع أكبر تجربة علمية دولية تُجري في الولايات المتحدة. وسيكون أقوى شعاع في العالم، بحيث يرسل جسيمات تبعد 1,300 كم عن منشأة سانفورد للأبحاث تحت الأرض Sanford Underground Research Facility في ليد، ساوث داكوتا. وستبدأ أعمال الحفر لبناء منشأة النيوترينوات خط الأساس الطويلة، الذي سيضم منشأة ستانفورد للأبحاث، في وقت لاحق من هذا العام، ومن المقرر أن يبدأ التشغيل بحلول عام 2022. ولدى المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، أو سيرن CERN، التي تضم مصادم الهادرونات الكبير Large Hadron Collider، وهو كاشفها الأصغر قليلاً، الذي بدأ تشغيله في سبتمبر 2018. وجارٍ إعداد كاشف ثانٍ أيضاً.
سيستفيد مشروع «ديون» من ترقية كبيرة لمسرّعات مختبر فيرمي لاب، مع الخطة الثانية لتحسين البروتونات (PIP-II)، التي ستوفر مسرعاً جديداً للجسيمات يولِّد حزمة بروتونات تزيد طاقتها بنسبة %60 عن ذي قبل. وستصنع الآلية من موادَّ فائقة التوصيل وعديمة المقاومة الكهربائية؛ مما يُنتج طاقة أكبر بتكلفة أقل، وسيكون هناك عدد أكبر من النيوترينوات لدراستها من أي وقت مضى. وسيتضمن مشروع «ديون» DUNE أيضاً مكاشيف أكثر حساسية، تستخدم غاز الأرغون المسال Liquefied argon وتعمل عند 185- درجة سيليزية. وبحلول عام 2026 سيعمل المشروع بكامل طاقته.
ويواصل الفيزيائيون في مختبر فيرمي لاب دراسة النيوترينوات في محاولة لفك الأسرار التي تحملها. ويمكن للنيوترينوات أن تنتقل عبر مسافات شاسعة من الكون بسرعة، حيث تتداخل معها الجسيمات الأخرى، بما فيها تلك الموجودة في الحقول المغناطيسية. وبالنظر إلى أنه يصعب تحديد موقعها، يمكن للنيوترينوات أن تكشف عن جوانب الطبيعة غير المعروفة للعلم، وقد تكشف الأسباب التي تجعل الكون مصنوعاً من المادة. فقد بدأنا للتو بفهم العجائب المحتملة للنيوترينوات، ومع تحسن تقنياتنا وتنامي معرفتنا، قد نتوصل قريباً إلى بعض الرؤى المذهلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى