أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تكنولوجيا

المدن الذكية

مع تنامي المدن بوتيرة أسرع من أي وقت مضى، فما الدور الذي يمكن أن تؤديه التكنولوجيا في جعلها أكثر ملاءمة للبيئة؟

إعادة بناء الأفق العمراني

قد تبدو مدينة الغد مألوفة، لكن التكنولوجيا تجعل منها أكثر ملاءمة للبيئة، وأنظف وأكثر ذكاء مما هي عليه حاليا.

كيف نجعل مدينتنا ‹ذكية›؟ فهذا السؤال يشغل بال عدد متزايد من الباحثين والمصممين والمهندسين المعماريين. وتوصف المدينة الذكية عادة كجزء أساسي من «إنترنت الأشياء»Internet of Things الذي طال انتظاره، وهي المدن التي ترتبط فيها جميع الأشياء بالإنترنت وببعضها بعضا أيضا. وبغض النظر عما تقوم به هذه الأجهزة، فالدافع النهائي لتطبيقها في المناطق الحضرية هو الاستدامة – أي استخدام البيانات والتكنولوجيا لجعل مدننا أكثر اخضرارا ونظافة.
ولنأخذ شبكة المياه في سنغافورة كمثال: تقوم المجسات المدمَجة في كل أجزاء النظام برصد ضغط الماء بواقع عدة مرات في الثانية. وأي تغير يُبلَّغ تلقائيا إلى خادم مركزي Central server، وإذا اشتُبه في حدوث تسرب، يُرسل فريق من المهندسين لإصلاحه. وتقوم مجسات أخرى بمراقبة جودة المياه- فدرجة الحرارة، ودرجة الحمضية والموصلية الكهربائية قد تشير جميعها إلى وجود تلوث. ففي مدينة/جزيرة ذات موارد محدودة من المياه العذبة، فإن مثل هذا النظام ذو أهمية البالغة.
وفي لندن، تتعرف إشارات المرور على مناطق الازدحام، وتستجيب تلقائيا لتقليل التأخير لكل من مستخدمي الطريق والمشاة. وفي المستقبل القريب، ستتمكن إشارات المرور والمركبات من أن تتواصل بعضها مع بعض، لجمع البيانات حول استخدام الطرق، وتزويد السائقين بتحديثات في الزمن الحقيقي. وحتى في مجال النقل الجماعي، فإن التقنيات الذكية تُحدث فرقا. وتستخدم البيانات المفتوحة Open data لرسم خريطة للطرق العمومية للدراجات وتحقيق فهم أفضل للطلب على أنظمة المترو.
وفي مدينة فيلادلفيا الأمريكية، تعاد الكهرباء التي تولدها مكابح القطارات تلقائيا مرة أخرى إلى شبكة الكهرباء في المدينة. وفي هولندا، تستخدم الكهرباء الفائضة لشحن الحافلات الكهربائية في المدن. لكن تعديل البنية التحتية الحالية لتتلاءم مع التقنيات الذكية قد يكون مهمة صعبة. تخيّل، بدلا من ذلك، أننا بدأنا من نقطة الصفر، وصممنا وبنينا مدينة تعتبر الاستدامة من أولوياتها القصوى. وتستمد المدينة طاقتها من مصادر منخفضة الكربون، تستخدم أجهزة متصلة ذكية للإبقاء على حركة جميع الأشياء؛ مما يوفر نوعية حياة أفضل لسكانها. وقد كان هذا هو الهدف الطموح لمدينة مصدر، وهي مدينة بنيت خصيصا لهذا الغرض على أطراف أبوظبي.
وعند الكشف عن تصميمها الأولي في عام 2008، تلقى مطوروها الاستحسان من جميع أنحاء العالم. فقد تضمنت الخططُ منظومةً للنقل الخالي من السيارات، تعتمد على مقصورات بدون سائق تسير على مسارات مغناطيسية، وتقنيات لحصاد الطاقة في كل منزل، واتباع نهج «الصفر المطلق» فيما يتعلق بانبعاثات الكربون والنفايات.
والمباني في مدينة مصدر أقل تعطشا للطاقة بكثير من الأبنية المماثلة في أبوظبي القريبة، وذلك في معظمه بسبب العزل المُحكم والتصميم الذكي. والجزء الأكبر من المياه الساخنة لمدينة مصدر يوفّر من سخانات شمسية منخفضة التكلفة، وتستفيد معظم الأبنية من طاقة الشمس لتوليد احتياجاتها من الكهرباء أيضا. لكن حدثت بعض الانحرافات عن الخطة الأصلية.
بداية، فالمقصورات عديمة السائق لا تعمل الآن إلا بين محطتين اثنتين، بعد أن حدّ نمو السيارات الكهربائية من استخدامها إلى حد كبير. وكذلك، فإن عدد السكان يقل بكثير عما كان متوقعا؛ كان مقررا في الأصل أن تُؤوي المدينة 500 ألف نسمة، في حين لا يعيش فيها حاليا إلا نحو 1000 شخص.
وكان للأزمة الاقتصادية لعام 2008 تأثير كبير في الجدول الزمني للبناء؛ مما يعني أنه حتى الآن لم يُبنَ سوى أقل من %5 من بنية المدينة المخطط لها. وحين تنتج مدينة مصدر قدرا أكبر بكثير مما تستهلكه من الطاقة النظيفة، فقد تخلّى مطوروها بهدوء عن هدفهم المتمثل بأن تصبح أول مدينة في العالم ذات انبعاثات صفرية من الكربون وعديمة النفايات.
فهناك مدينة مستدامة أخرى بنيت لهذا الغرض، وهي سونغدو Songdo في كوريا الجنوبية. ويبلغ عدد سكانها الحالي ما يزيد قليلا على 100 ألف نسمة- وهو نصف ما كان متوقعا – وتواجه تحديات أكبر من ذلك بكثير. ولحسن الحظ، فعندما يتعلق الأمر باستخدام التكنولوجيا الذكية، فإن سونغدو تقود الطريق.
ومن بين مشروعاتها الرائدة نظامها الهوائي للتخلص من النفايات. تفرز الأسر نفاياتها كالمعتاد، لكن بدلا من الاعتماد على شاحنات القمامة التي تلتهم كميات هائلة من الوقود، تعالج جميع النفايات تحت الأرض. فهناك مجسات في كل صندوق قمامة، تكتشف مقدار النفايات التي يحويها، وبمجرد أن يمتلئ، يشفط تلقائيا عبر متاهة من الأنابيب المُفرَّغة إلى منشأة للمعالجة المركزية. وهناك، تُحوَّل فضلات الطعام إلى سماد لحدائق المدينة، فيما تُنظَّف النفايات القابلة للتدوير ومعالجتها.
ويعاد تدوير المياه الرمادية – أي المياه التي اغتسل بها السكان- في سونغدو أيضا، ويمكن للسكان تتبّع استهلاكهم من الطاقة و المياه عن طريق لوحة مثبتة في المنزل. وهناك الكثير من مسارات الدراجات، وتقوم المجسات المنتشرة في جميع أنحاء المدينة بإبلاغ السكان بكل شيء، من تأخّر وسائل النقل إلى جودة الهواء.
وعلى الرغم من الفوائد الواضحة التي جلبتها التكنولوجيا إلى هذه المناطق العمرانية الجديدة، فمن الإنصاف أن نقول إننا لم نتوصل حتى الآن إلى أفضل السبل لبناء مدينة ذكية. وتمتلك مشاريع مثل سونغدو ومصدر أفضلية تطوير البنية التحتية اللازمة، لكن تطبيقها على المدن القائمة ليس بالمهمة السهلة. وحتى مع ذلك، فمع تتنامى التكنولوجيا بسرعة، يبدو أنه لا مفر من أن تكتسب مدننا الذكاء اللازم لتحقيق النجاح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى