نحن نولد قبل أن نكون مستعدين للدفاع عن أنفسنا، لكننا نتعلّم خلال السنوات الثلاث الأولى بوتيرة أسرع مما نفعل خلال بقية حياتنا. فكيف نتحول من رضّع ضعفاء غير قادرين على رفع رؤوسنا إلى أطفال قادرين على المشي والكلام؟
الولادة
يأتي الأطفال إلى العالم وهم يحتاجون إلى تحقيق الكثير من النمو اعتبارا من نحو 35 أسبوعا من الحمل، يبدأ الأطفال بالنمو بسرعة. وكلما زاد حجم الجنين، سيحتاج إلى المزيد والمزيد من الطاقة، لكن ما يمكن للأم توفيره محدود. وقبل أن يولد الطفل، يبدأ نموه بالتباطؤ.
ويمثل دخول العالم لأول مرة صدمة لأجهزة الرضيع، ومن ثمَّ فللأيام الأولى من الحياة أهمية بالغة. وحتى لحظة خروجه من الرحم، يُلبي جسد الأم جميع احتياجاته؛ فهي تحافظ على درجة حرارته ثابتة، وتهضم الطعام لتزويده بالمغذيات وتتنفس لتوفير الأكسجين؛ كما تتخلص من فضلاته وتقيه من العدوى. ثم فجأة، يتعين على الطفل أن يدافع عن نفسه.
مع تعرضه للهواء البارد في غرفة الولادة، تؤدي شهقة قوية إلى فتح الرئتين وملئهما بالهواء. أما في بيئة الرحم الآمنة، يأتي كل الأكسجين الذي يحتاجه الجنين من الحبل السري. وتكون الرئتان ممتلئتين بالسوائل التي تحيط بالجنين ويُحوِّل القلب الدم بعيدا عنهما عبر ثقب يسمى الثقبة البيضاوية Foramen Ovale وأنبوب يسمى القناة الشريانية Ductus Arteriosus. فجأة، يحتاج الطفل إلى التنفس، فتُغلق الثقبة البيضاوية في القلب ويندفع الدم إلى الرئتين. وفي غضون ساعات أو أيام بعد الولادة، تُغلق أيضا القناة الشريانية، وقناة أخرى تحمل الدم من الحبل السري إلى القلب (القناة الوريدية).
تَهبُّ أجهزة الجسم الأخرى بدورها إلى العمل. فقد كان الطفل يمارس عمليتي التنفس والبلع في الرحم، كما بدأت الكلى بالعمل فعلياً. وفي غضون 24 ساعة تبدأ الأمعاء بالتحرك، فتُفرز مادة قطرانية ذات لون أخضر داكن أو أسود تسمى العقي Meconium، والتي تحتوي على الصفراء، والمخاط، والسائل السلوي وأي شيء آخر يكون الطفل قد تناوله في الرحم. وبمجرد التخلص من هذا السائل، يمكن أن تبدأ عملية هضم الحليب. وتكون معدة حديثي الولادة صغيرة جدا- بالكاد حجم كرة زجاجية- لذلك يحتاج الطفل إلى أن يستيقظ كل بضع ساعات للأكل، ولا يمكنه سوى ملء فمه بكمية قليلة في كل مرة.
وينتج ثدي الأم حليبا ثخينا ذا لون ذهبي مصفر يسمى اللبأ Colostrum، وهو مفعم بالطاقة لكن محتواه من الدهون أقل من حليب الثدي العادي، والذي قد يجد حديثو الولادة صعوبة في هضمه. وبدلا من ذلك، فهو يحتوي على كمية كبيرة من البروتينات – وهو مثالي للطفل النامي. للبأ تأثير مليّن خفيف، مما يساعد على تحريك أمعاء الرضيع، كما يأتي مزودا بسلاح سري هو الأجسام المضادة، والتي تعمل على تحييد البكتيريا والفيروسات، فتلتصق بها وتحفّز تدميرها. وهي تعبر طوال الحمل من الأم إلى الطفل عبر المشيمة، لكن هذا النوع من المناعة يكون مؤقتا فقط. وسيتمكن الرضيع من إنتاج الأجسام المضادة بنفسه، لكن هذا يستغرق بضعة أشهر. وفي هذه الأثناء، يزوده اللبأ بدفعة داعمة تساعده على مقاومة العدوى. ويمتلك الوليد بعض الحيل الخاصة به، والتي تساعده على البقاء على قيد الحياة خلال هذه الفترة التي يتسم فيها بالضعف.
وعلى الرغم من أن لديهم الكثير ليتعلموه، يولد الأطفال ببعض الاستجابات الحيوية الفطرية، والتي تشمل أمورا بسيطة مثل الطرف بالعينين والبلع والتثاؤب، إلى جانب استجابات أكثر تعقيدا. إن المنعكس التجذيري Rooting Reflex يجعل الطفل يدير رأسه أو يفتح فمه عندما يلمس شيءٌ خده أو شفتيه، ويدفعه منعكس المصّ إلى المصّ إذا تلامس شيء مع سقف فمه. وتساعد هذه الغرائز في التغذية. وهناك منعكس مورو ومنعكس القبض براحة اليد: يحدث الأول عندما يشعر الطفل كما لو أنه يسقط، فيمد ذراعيه وساقيه ويقوس ظهره قبل أن يتخذ وضعية منحنية؛ أما الثاني فيجعل الأصابع والقدمين تتجعد إذا قم بلمس راحة يده أو باطن قدمه، وهما يساعدان معا الطفل على البقاء على قيد الحياة.
الأسابيع الأولى
يمكن للطفل حديث الولادة سماع الضوضاء والاستجابة لها، ويولد مزودا ببدايات التواصل؛ فهو يدير رأسه نحو مصادر الضوء والصوت، ويتعرف على وجه الشخص الذي يحمله ويبكي عندما يحتاج إلى شيء ما. ويستغرق الأمر بضعة أسابيع فقط لكي تبدأ هذه المهارات في التحسّن. ويبدأ الوليد بسرعة بالتعرف على صوت أمه، وسرعان ما يبدأ في إصدار أصوات مختلفة، مثل الهديل والغرغرة وكذلك البكاء. خلال الأسابيع القليلة الأولى، لا يمكن للأطفال التركيز سوى على الأشياء الموجودة أمام وجوههم مباشرة، وكثيرا ما تحول نظرتهم. وفي هذه المرحلة، يكون التنسيق ضعيفا بين اليد والعينين. ويستكشف الرضّع الصغار أيديهم وأصابعهم، لكنهم لا يستطيعون بعد استخدامها بشكل صحيح، وكثيرا ما تظل أيديهم مقبوضة. وبالداخل، تشهد أجسادهم تغيرات سريعة يغذيها الحليب. إذا أُرضع الطفل طبيعيا، يحلُّ حليب الثدي الطبيعي محل اللبأ، والذي يكون محتواه أعلى في الدهون ويحتوي على إنزيمات تساعد الجهاز الهضمي على امتصاص المغذيات، كما أنه غني بالسكريات. ولا توفر هذه المواد الطاقة فحسب، بل إنها تساعد البكتيريا المفيدة على استعمار الأمعاء الغليظة.
شهران من العمر
ويقضي الرضّع معظم وقتهم في الأكل والنوم، وتبدأ أجسامهم بالنمو بسرعة. وفي الرحم، تنقسم الخلايا باستمرار لتشكّل الأنسجة والأعضاء، ولكن بعد الولادة يحدث تحوّل في النمو. بدلا من صنع خلايا جديدة، يزيد الأطفال من حجم الخلايا الموجودة لديهم بالفعل. وتختلف أنسجة حديثي الولادة كثيرا عن أنسجة الأطفال والبالغين. فهناك قدر أكبر من السوائل حول العضلات والخلايا العصبية، ويوجد قدر أقل من السيتوبلازم بداخلها. ومع تطور الطفل، يتغير هذا التوازن؛ فتتوسّع الخلايا العضلية، وتمتلئ بالسيتوبلازم والجزيئات المعنية بالانقباض. وتتمدّد الخلايا العصبية، مما يعزّز الاتصالات بينها ويؤدي إلى صنع أخرى جديدة، وتبدأ كمية السائل خارج هذه الخلايا بالتناقص. وباستخدام قوته الجديدة، يتعلم الرضيع رفع جسده بيديه عندما يوضع على بطنه، ويبدأ برفع رأسه بثبات أكبر، وتصبح حركاته أقل تشنّجا وأكثر تنسيقا. وتستمر الدهون بالتشكّل بسرعة تحت الجلد، مما يساعد على إبقاء الرضيع دافئا. وعند عمر الشهرين، يبدأ الرضيع في اكتساب المهارات الاجتماعية، فيبدأ بمتابعة الأشياء بعينيه والتعرف على الأشخاص من بعيد، كما يبدأ بالابتسام والضحك.
في منتصف الطريق
يتمكن الرضيع أخيرا من رفع رأسه بوضعية ثابتة عند نحو 16 أسبوعا من العمر، كما يبدأ بالدفع برجليه إذا وضع فوق سطح صلب. وبحلول ستة أشهر يمكنه أن يتدحرج، ويدفع جسمه لاتخاذ وضعية الزحف وحتى الوقوف مع الدعم. وبحلول هذا الوقت، يبدأ الرضيع أيضا باستخدام يديه وعينيه معا. فهو يمد يديه إلى الأشياء ويحرّك أصابعه للإمساك بها، كما يبدأ باستخدام فمه لاستكشاف الأشياء بتعمق أكبر. وفي وجود كل هذه القوة والتنسيق، تنتفي الحاجة إلى منعكسي القبض ومورو، ومن ثم تتلاشي هاتان الاستجابتان المبكرتان. ويبدأ الرضيع بتعلم تمرير اللعب من إحدى يديه إلى الأخرى، وكذلك تتحسن قدرته على الإبصار. وبحلول ذلك الوقت، يكون الرضيع أكثر إدراكا للفروق بين الألوان المختلفة، ويبدأ بمحاكاة حركات الوجه. ويمكنه إدراك العواطف والتعبير عنها ويبدأ صوته في التشكل. وهو ينفخ بفمه استهزاء ويبدأ بإصدار الأصوات الساكنة مثل ‘با’، و ‘دا’ و ‘غا’، ويستخدم الضوضاء لجذب الانتباه والتعبير عن نفسه. وكذلك يبدأ التعرف على الكلمات، وخاصة اسمه أو اسمها. ولتعزيز كل هذا التقدم، كثيرا ما يتحول الرضع البالغون من العمر ستة أشهر إلى الأطعمة الصلبة ومع نمو الرضيع يزيد محتوى حليب الثدي من الدهون من نحو 2 غم/دل (غرام لكل ديسيليتر، أي ما يعادل 100 ملليلتر) في اللبأ إلى 4.9 غم/دل. ويعمل اللبأ على توفير الطاقة ويساهم في تنامي مخزون الدهون تحت الجلد، لكن الجهاز الهضمي صار الآن جاهزا للمزيد. تتسم الأعضاء الهضمية لحديث الولادة بكونها أصغر من مثيلاتها في البالغين، وكذلك فهي تعمل بشكل مختلف عنها، فتصنع كميات مختلفة من الإنزيمات والصفراء وتعمل عند درجة حموضة (PH) مختلفة. ولكن عند عمر ستة أشهر، تبدأ الأحوال القديمة بالتغير. وتبزغ الأسنان الأولى، بداية من الأسنان الأمامية السفلية ثم العلوية، كما يتحسن البلع ويبدأ الجهاز الهضمي بإنتاج الإنزيمات لتفتيت الوجبات المعقدة.
أول عيد ميلاد
بحلول عيد ميلاده الأول يبدأ الرضيع باكتساب سلوكيات معقدة، فتصبح لديه أشياء مفضلة وأشخاص مفضلون. ويبدأ بفهم “دوام الأشياء” – وهي فكرة وجود الأشياء والأشخاص على الرغم من أنك لا تستطيع رؤيتهم دائما. وهو يبحث عن الأشياء المخفية ويبدأ بفهم آثار الجاذبية عن طريق تعلم إسقاط الأشياء ومشاهدة كيف تقع على الأرض. كما يبدأ بالاستجابة للطلبات ويعبر عن مطالبه الخاصة، بمحاكاة واستخدام الإيماءات مثل التلويح بيده، والإشارة بإصبعه وهزّ رأسه. وبحلول ذلك الوقت، فهو يفهم أيضا الكلمات المألوفة ويتبع التوجيهات البسيطة، فضلا عن كونه قادرا على المساعدة على مهام مثل خلع ملابسه. والأهم من ذلك كله أنه يبدأ بالتواصل باستخدام “الثرثرة.” وقد تحسنت الآن قدرته على التنسيق؛ فقد اختفي منعكس القبض منذ وقت طويل، ويمكنه نقل الأشياء بسهولة من يد إلى الأخرى، ويمكنه التقاط الأشياء الصغيرة بين الإبهام والسبابة واختبار الأجسام الجديدة عن طريق هزها وضربها. وسيبدأ التجول بالأنحاء، ويمسك بالأشياء والتحرك على قدمين، بل قد يخطو البعض خطواتهم الأولى. أما الثقب الذي حوّل مسار الدم عبر القلب عند الولادة، فقد صار الآن ملتئما تماما. وتبدأ الأسنان الخلفية بالظهور ويهضم الجهاز الهضمي وجبات كاملة. وتمتلك الرئتان مزيدا من الأكياس الهوائية (الأسناخ)، مما يزيد من مساحة السطح المتاحة لتبادل الغازات، كما طوّر الدماغ بلايين البلايين من الاتصالات الجديدة. خلال الأشهر التالية، يتحول الرضيع إلى دارج Toddler. وعندما يبدأ بتشكيل فهمه للعالم، سيظهر رغبة في أن يكون أكثر استقلالية. وهو يتعلم المشي، ويبدأ الكلام ويمارس الألعاب. يولد الرضع صغارا وضعفاء، لكنهم ينطلقون خلال بضعة أشهر في طريقهم إلى النمو.