الحواسيب الكمّية
جيل جديد من الحواسيب التي تسخّر قوة الجسيمات: كيف ستغير هذه الحواسيب الفائقة السرعة عالمنا؟
تقول غوغل إنها حققت «سيادة كمّية»، وهي طريقة رائعة للقول إنّ مُعالِج سيكامور Sycamore الذي أنتجته الشركة يمكنه فعل شيء فريد من نوعه. فقد نجح في حل مسألة حسابية معقدة خلال ثلاث دقائق و20 ثانية. ويقول عملاق محركات البحث إن أحدث حاسوب فائق Supercomputer سيصعب عليه حلها في أقل من 10,000 سنة. ويرجع ذلك إلى أن سيكامور ليس مجرد ترقية للتكنولوجيا الحالية… بل إنه طريقةٌ مختلفة تماماً للعمل.
سيكامور هو حاسوب كمّي؛ مما يعني أنه يُشحن شحنا فائقا بفضل السلوك الغريب للجسيمات. وقد تساعد قوة المعالجة المتقدمة هذه على علاج الخرف Dementia أو اختراع الذكاء الاصطناعي، لذا فليس من المستغرب أن تعمل شركات التكنولوجيا الأخرى على تطوير إصداراتها الخاصة منه، وحتى الحكومات تستثمر البلايين في أبحاثها. وفي الواقع، أطلق على التنافس بين الولايات المتحدة والصين اسم «سباق الفضاء للقرن الحادي والعشرين».
وبينما يمثل سيكامور قفزة هائلة لـغوغل، فإنها ليست سوى الخطوة الأولى لهذه الثورة التقنية. كما أن الفيزياء الأساسية التي تجعل الحوسبة الكمّية Quantum computing استثنائية تفرض بعض أكبر التحديات، التي لم نَحلَّ كثيراً منها حتى الآن.
لفهم كيفية عمل الحواسيب الكمّية، تحتاج إلى التفكير بعمق في حقيقة محيرة للعقل: الأشياء Objects قد توجد في مكانين في الوقت نفسه. ويصعب فهم هذا الأمر، وهو ما يُعزى جزئيّاً إلى أن الأمر لا يتعلق بكيفية إدراكنا للأشياء، وكذلك لأنه منذ قرون، ذكر إسحق نيوتن Isaac Newton وغيره من العلماء أن العالم يتبع أنماطاً يمكن التنبؤ بها. فمثلاً، تسقط التفاحة دائماً على الأرض، حتى ولو وقعت على رأسك أولاً. وإذا أخذت هذه التفاحة إلى المنزل ووضعتها في مطبخك، فلن تجدها فجأة في حمامك.
ولكن هذه القواعد لا تنطبق على المستوى تحت الذري Subatomic، وما يعنيه «الكم» Quantum: أصغر مقدار – أو كمية – يمكننا قياسها، أي اللبنات التي تشكل الكون. وفي أوائل القرن العشرين وجد علماء مثل نيلز بور Niels Bohr وفيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg وإرفين شرودنغر Erwin Schrödinger أنه على الرغم من إمكانية العثور على الجسيمات Particles في أي مكان تقريباً، فإن احتمال التأكد يقيناً من العثور على أحدها في أي مكان بعينه هو صفر. ويرجع ذلك إلى أن الجسيمات قد توجد في مكانين في الوقت نفسه. فمثلاً، تدور الإلكترونات صعوداً وهبوطاً بصورة متزامنة.
ويصف علماء الفيزياء هذا السلوك باسم «التراكب» Superposition. ولتعقيد الأمور يحدث التراكب فقط عندما لا ننظر إليه. وفي اللحظة التي نحاول فيها قياسه، تفقد الجسيمات حالتها غير المؤكدة وتدور فقط صعوداً أو هبوطاً. ومن ثمَّ، فإن أفضل ما يمكن أن يفعله الفيزيائيون هو استنباط احتمال الحالة التي ستبدو عليها عند مشاهدتها.
كما لو أن هذا ليس غريباً بما فيه الكفاية، يمكن أيضاً أن ‘تتشابك’ Entangled الجسيمات في أزواج أو مجموعات. وعندها تصبح شديدة الارتباط ببعضها البعض، ومن ثمَّ لا يمكنك تغيير أحدها دون تغيير الآخر أيضاً. ووصف ألبرت آينشتاين Albert Einstein هذا بـ «التأثير الشبحي عن بُعد»؛ لأنه يعمل حتى لو كانت الجسيمات عند نهايتين متقابلتين من الكون.
وإذا وجدت صعوبة في فهم هذه الأفكار؛ فلست وحدك. ففي عام 1965 حصل ريتشارد فاينمان Richard Feynman على جائزة نوبل في الفيزياء مناصفة لشرحه لكيفية عمل فيزياء الكم، ولكن حتى هو قال: «إذا ظننت أنك تفهم ميكانيكا الكم، فأنت لا تفهم ميكانيكا الكم». لكن هذا لم يمنع فاينمان من اقتراح فكرة بناء حاسوب كمّي.
والمدهش، أن فاينمان أعلن في في عام 1981 بقاعة محاضرات بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا California Institute of Technology و(اختصاراً: Caltech) أن الوقت قد حان لإعادة اختراع الحاسوب. وفي العام نفسه صاغت شركة IBM عبارة ‘حاسوب شخصي’ Personal computer أو «PC» اختصاراً. واحتاج الأمر إلى عقدٍ آخر قبل أن تستخدم هذه الأجهزة في الحياة اليومية.
ولكن جميع الحواسيب – بداية من أجهزة IBM المبكرة تلك وحتى «ماك بوك» MacBook الحديثة – تعمل عن طريق معالجة «بتات» Bits من المعلومات. ويمثل كلُّ بت القيمةَ واحد أو صفر، حيث يشكل هذا الكود الثنائي Binary code أساس جميع العمليات الحوسبية التي يمكن للحاسوب معالجتها. وكلما زاد عدد البتات التي يحتوي عليها الحاسوب، زادت صعوبة المهام التي يمكنه معالجتها.
اقترح فاينمان أن الحاسوب الكمّي سيستخدم البت الكمي أو «الكيوبت» Qubit، والذي يوجد في حالة تراكب، بحيث يمكن أن تكون واحدا أو صفرا في الوقت نفسه. وإذا حدث تشابك كمي بين اثنين من الكيوبتات، يمكنها إظهار أربع قيم في آن واحد 1-0، 0-1، 1-1 و0-0. ومع تنامي عدد الكيوبتات، فسرعان ما يصبح الحاسوب الكمّي أقوى من الحاسوب التقليدي، ومن ثَمَّ يمكنه معالجة المعلومات خلال فترة أقل بكثير.
وبينما طرح فاينمان مخططاً لكيفية عمل هذه التقنية، فقد اتضح أن صنع حاسوب كمي هو في الواقع مهمة أصعب بكثير. إذ تتألف الكيوبتات من ذرات فردية أو جسيمات تحت ذرية. ومجرد محاولة التحكم يعني المخاطرة بأن تفقد خصائصها الكمية. استغرق مجرد ربط بعضها البعض سنوات من العمل، إذ ظهر أول حاسوب مزدوج الكيوبتات في عام 1998.
لقد تغير كل هذا منذ أكثر من 20 عاماً، عندما طوّرت الدوائر فائقة التوصيل Superconducting circuits في اليابان، التي تتضمن تبريد الكيوبتات إلى – 273 °س باستخدام ثلاجات قوية. وباستخدام هذه الطريقة، وصلت شركة إنتل Intel إلى 49 كيوبت، فيما تفتخر IBM بـ 53. ووصل مُعالج سيكامور الثوري من غوغل إلى 53 كيوبت، لكن عملاق التكنولوجيا صَنَع بالفعل مُعالِجاً آخر يصل إلى 72 كيوبت. بل إن شركة ناشئة اسمها ريغيتي Rigetti، حصلت على تمويل بمبلغ 119.5 مليون دولار (93 مليون جنيه إسترليني)، تقول إنها تعكف على تطوير نظام يصل إلى 128 كيوبت.
ولكن تبريد الأشياء الكبيرة أصعب من تلك الصغيرة، خاصة عندما تحتاج إلى جعلها أشد برودة من الفضاء السحيق. ومن ثَمَّ، فعندما تصل الكيوبتات الفائقة التوصيل إلى الحجم الذي يمكنها من تحقيق السيادة الكمية، فقد تنتفي الحاجة إلى الثلاجات التي تعتمد عليها.
ومن البدائل المحتملة استخدام الأيونات، وهي أي ذرة ذات شحنة كهربائية إضافية، يمكن احتجازها Trapped باستخدام شرائح ميكروية تبث حقولاً كهربائية. وبعد ذلك يمكن استخدام كل شريحة ميكروية ككيوبت. ومن المهم معرفة أن هذه ستكون قادرة على العمل في درجة حرارة الغرفة، ومن ثَمَّ تُحل مشكلة الثلاجة. ولكن الأيونات المُحتَجَزة لم تُختبر إلا في المختبرات، وسيستغرق الأمر وقتاً طويلاً لصنعها بالكميات التجارية المطلوبة. وفي الوقت نفسه تُجرِي شركة مايكروسوفت تجارب على الكيوبتات الطوبوغرافية Topological Qubits، التي ستكون أقل حساسية لدرجة الحرارة، لكنها تقوم على شطر الإلكترونات. ويمكن القول إنّ هذه التقنية في حالة كمية خاصة بها: إنها تحقق تطورات مهمة، لكننا قد بدأنا للتو بفهمها.