الجواسيس عبر التاريخ
أسرار الجاسوسية عبر العصور
أثبت مبدأ جمع المعلومات السرية، من الوثائق السرية إلى التكتيكات العسكرية، أنه لا يقدر بثمن بالنسبة إلى الحكام، والإمبراطوريات والحكومات على مر التاريخ. فقد منح جمع المعلومات سِرّا عن الأعداء، وحتى الحلفاء، الدولَ فرصاً لجني مكاسب عسكرية، أو سياسية أو اقتصادية.
الجاسوسية هي جمع المعلومات السرية، إذ تغيرت الأساليب المستخدمة في تنفيذها بشكل كبير مع تطوّر التكنولوجيا. ففي روما القديمة، كان من الممكن اعتراض الرسائل وهي في طريقها إلى المُتلقِّي المعنيّ. وفي محاولة للحيلولة دون ذلك، اخترع يوليوس قيصر واحدة من أقدم الشيفرات- أي الرموز المستخدمة لإخفاء الرسائل – لمنع جواسيس الأعداء من قراءة اتصالاته العسكرية السرية.
وفي القرن العشرين، اكتسبت الجاسوسية أهمية خاصة خلال الحربين العالميتين، إذ أنشأت الدول شبكات استخباراتية ضخمة في محاولة لاستباق تحركات العدو. وتشير بعض التقديرات إلى أن فك رموز آلات “إنغما” Enigma النازية )التي تستخدم لتشفير الرسائل (، ووصفت بأنه “يستحيل كسرها”، قد أدى إلى تقصير أمد الحرب العالمية الثانية بعدة سنوات، مما أنقذ حياة عدد لا يحصى من البشر.
وخلال الحرب الباردة، حينما لاح في الأفق خطر نشوب حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، مثّلت الاستخبارات الاستراتيجية تكتيكات حيوية أثرت في كلا الجانبين. فقد قام الجواسيس بتغيير الأدوات لتشبه شكل أشياء تستخدم في الحياة اليومية للمساعدة على جمع المعلومات، من الكاميرات على شكل زر معطف إلى ميكروفونات مخبأة في أعقاب الأحذية.
لا تزال عمليات مكافحة الجاسوسية تتسم بأهمية مذهلة حتى يومنا هذا. وتعمل الأجهزة الأمنية في جميع أنحاء العالم على حماية مواطنيها ضد التهديدات الموجهة إلى المصالح الوطنية، وتقوم بتنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب والتصدي لجرائم الإنترنت.
الجاسوسية قديما
كيف كان يتم جمع المعلومات الاستخباراتية في الحضارات القديمة
في أوائل المدن التي أنشئت في بلاد ما بين النهرين ومصر القديمة، كان التجسّس وسيلة فعالة استخدمها الملوك والفراعنة في مراقبة الشعب، وكذلك لاكتشاف نقاط الضعف لدى الأعداء.
وقد استخدم قدماء المصريين جواسيس البلاط للتخلص من الرعايا الخائنين، وكانوا أيضا من بين أول من استخدم السموم لأغراض التخريب أو الاغتيالات.
وبالنظر إلى عدم امتلاكهم لأي أداة تجسس، كان التنصت واعتراض الرسائل واستطلاع تحركات العدو هي الطرق الرئيسية المستخدمة لجمع المعلومات الاستخباراتية المفيدة. وطوِّرت عدد من التقنيات الذكية لضمان الحفاظ على سرية الرسائل المكتوبة، بما في ذلك استخدام الرموز والأحبار السرية.
وقد برع الإغريق في التجسس والتمويه. وصارت حكاية حصان طروادة الأسطورية رمزا لتكتيكاتهم العسكرية الماكرة والخادعة. فقد طوّروا طرقا فعالة لإيصال الرسائل المهمة بين المدن، بما في ذلك نظام الإشارات النارية المعروف باسم السيمافور الهيدروليكي.
ومن بين الطرق الأخرى التي استخدمها الإغريق للحيلولة دون اعتراض رسائلهم، كانوا يقومون بنحت الرسائل المهمة على الخشب ثم تغطيته بالشمع. وبعد ذلك، يُرسل اللوح الخشبي إلى الحليف المعني، الذي يقوم بإذابة الشمع لقراءة الرسالة. كما استخدموا طرقا أكثر بشاعة، مثل الكتابة على السطح الخارجي للمثانة المنتفخة لحيوان ما، قبل تفريغها وتعبئتها في قارورة. ومن الممكن بعد ذلك نقل الوثيقة دون أن يلاحظها أحد إلى أي مكان، وذلك حتى يتم فتحها، ونفخها وقراءتها.
الجاسوسية في العصر الإليزابيثي
أنشأَت آخر ملكات أسرة تيودور شبكةً استخباراتية ساعدتها على الاحتفاظ بعرشها
كملكة بروتستانتية دون وريث، تعرّض حكم إليزابيث الأولى للتهديد من قبل مؤيدي الكاثوليكية ماري، ملكة أسكتلندا. وفي ظل التهديد باغتيالها، أنشأت الملكة شبكةً من الجواسيس لحمايتها من المعارضين ولكشف المؤامرات الخارجية. فقد كان رئيس جهاز مخابرات إليزابيث هو السير فرانسيس والسينغهام Walsingham، وهو محام بروتستانتي. وكان من يعيّنون كجواسيس من بين أعظم العقول في البلاد؛ وكُلِّف الباحثون والعلماء واللغويون جميعهم بحماية الملكية المعرضة للخطر.
كما عمل التقدم التكنولوجي على مساعدة شبكة المخابرات هذه؛ فقد استخدم الحبر غير المرئي المصنوع من الحليب أو عصير الليمون لأول مرة خلال هذه الفترة، مما سمح بكشف الرسائل السرية بتسخين الورقة بواسطة شمعة. وقد صار علم التشفير )التعمية) أكثر تقدما، كما احتاجت شبكة الجواسيس حتى تتمكن من كتابة وفك الشيفرات المختلفة.
واكتشفت سلسلة من المؤامرات التي هدفت إلى إسقاط أو اغتيال الملكة خلال فترة حكمها. وقد أنقذت المعلومات الاستخباراتية التي جمعتها مخابرات إليزابيث على الأرجح حياتها أكثر من مرة. مثلا، فبعد سجنها، حافظت ماري ملكة اسكتلندا على اتصالها بالعالم الخارجي عن طريق إرسال رسائل مشفرة لحلفائها مخبأة في براميل من الجعة. يذكر أنها لم تكن تعرف أن البراميل كانت تهرَّب من قبل عميل مزدوج يعمل نيابة عن والسينغهام، الذي قام بفك شيفرة رسائلها، وأثبت أن ماري متورطة في مؤامرة لقتل إليزابيث. وسرعان ما قُبِض على المتورطين، بمن فيهم ماري، وحوكموا وأعدموا بتهمة الخيانة.
جواسيس الحرب العالمية
كيف استخدمت استراتيجيات التجسس المبتكرة في محاولة لكسب كلتا الحربين العالميتين
قد يكون أكثر ما نتذكره عن الحرب العالمية الأولى هو حرب الخنادق، ولكن وراء خطوط القتال، لعب الجواسيس دورا حيويا. فقد أطلق على واحدة من شبكات التجسس الأكثر نجاحا خلال الحرب الاسم الرمزي “السيدة البيضاء” La Dame Blanche. ولكونها تضم أكثر من ألف عضو، عملت المنظمة لصالح البريطانيين من خلال القيام بمهام استطلاعية قيمة في بلجيكا المحتلة من قبل ألمانيا، والتجسس على القطارات، والطرق والمطارات.
وكان تطوّر الطائرات في أوائل القرن العشرين يعني أن الاستطلاع الجوي مثّل بدوره جزءا كبيرا من الحرب. وقامت الطائرات الألمانية والفرنسية -على حد سواء- بالتقاط الصور من الجو لدراسة تحركات القوات المعادية. وقد ساعدت الاستخبارات الألمانية -إلى حد كبير- فرق الجيش الألماني على التقدم على الجبهة الشرقية، ومن خلال الحصول على وثائق سرية واعتراض الرسائل اللاسلكية، كانوا يعرفون التحركات التي يخطط الروس لها.
وعندما بدأت الحرب العالمية الثانية، كانت الجاسوسية لا تزال جزءا أساسيا من الحرب. وكانت منظمة الاستخبارات العسكرية الألمانية، الآبفير (الدفاع) Abwehr، فعالة بشكل خاص خلال فترة احتلال هولندا. وتمكنت المجموعة من أسر 52 عميلا للحلفاء و350 من مقاتلي المقاومة، والذين قُبض على بعضهم بمجرد هبوطهم بالمظلات. ولظنهم أنهم يزودون حلفائهم الهولنديين بالسلاح، زوّد البريطانيون الألمان عن غير قصد بنحو 570 صندوقا من الأسلحة والذخيرة.
ومن المعروف أن آلات “إنغما” النازية استخدمت لضمان أن تظل رسائل الجيش الألماني آمنة. ومن أجل إرسال إشارة، كان المشغّل يكتب رسالته ثم يقوم بتغيير ترتيب حروفها باستخدام سلسلة من الدوّارات rotors، مما يعيد إنتاج الرسالة كخليط من الحروف المختلفة، وكان على المُتلقي معرفة الإعدادت الدقيقة المستخدمة من قبل المرسل من أجل فك شيفرة الرسالة الأصلية على جهازه. وكانت الإعدادات تُغيّر بصورة متكررة، كما كانت النسخة العسكرية النموذجية من آلة “إنغما” تحتوي على أكثر من 150 مليون تريليون إعدادا مختلفا، ولذلك فقد اعتُبر فك الشيفرة ضربا من المستحيلات. لكن البريطانيين تمكنوا في نهاية المطاف من فك شيفرة الآلة “إنغما” بعد أن قامت فرق من علماء الرياضيات ومحطمي الشيفرات في مركز بلتشلي بارك بتطوير حواسيب عُرفت ببومبي Bombe، أمكنها اكتشاف إعدادات الجهاز بناء على رسالة مشفرة تمّ اعتراضها. ويقدر بعض المؤرخين أن المعلومات الاستخباراتية التي جمعها الحلفاء عن طريق كسر شيفرة آلات “إنغما” قد أسهمت في تقصير أمد الحرب بقدر عامين.
الجاسوسية خلال الحرب الباردة
بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر عصر الجاسوسية خلال صراع مرير
بدأ الصراع على السلطة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، والذي استمر طيلة عقود، بعد انهيار الرايخ الثالث الألماني. كانت الدولتان تمتلكان أيديولوجيات متعارضة- الرأسمالية مقابل الشيوعية –وكان انعدام الثقة بينهما متبادلا. وقد تزايدت حدة التوتر بعد أن دخلت كلتا القوتين في سباق للتسلح وتنامى خطر نشوب حرب نووية مدمرة. وقد كانت الجاسوسية إحدى الطرق الأساسية المستخدمة في محاولة كسر الجمود. كانت القوتان العظميان مصمِّمتين على امتلاك اليد العليا، لذلك أرسلت كل منهما جواسيسها في جميع أنحاء العالم لجمع المعلومات الاستخبارية عن العدو.
ومن بين أسوأ شبكات الجاسوسية سمعة وراء الستار الحديدي، نجد وزارة أمن الدولة، المعروفة باسم ستاسي Stasi. ومن خلال عملها في برلين الشرقية، استخدمت المنظمة أساليب وحشية لمراقبة أنشطة مواطني عاصمة ألمانيا الشرقية. وكان جنود “ستاسي” يطلقون النار على المواطنين الذين يخرجون عن الخط المرسوم أو يحاولون الهروب إلى الغرب.
وبعد الحرب العالمية الثانية، أطلقت الولايات المتحدة مشروع شامروك Project Shamrock ومشروع المنارة Project Minaret ، وهما تجربتان جاسوسيتان لرصد كافة المعلومات التلغرافية الداخلة والخارجة من البلاد. وعلى الرغم من هذا، فقد كان هناك عدد من الجواسيس العاملين في الولايات المتحدة لحساب السوفييت، والذين قاموا بجمع معلومات عن الأسلحة النووية، والتحركات العسكرية والتقنيات الجديدة.
وقد استمر الاستطلاع الجوي في لعب دور كبير في العمليات الاستخباراتية. وحددت وكالة الاستخبارات المركزية مواقع الصواريخ البالستية السوفييتية باستخدام أقمار اصطناعية تجسسية في إطار برنامج كورونا Corona Program. وبعد مقتل طيار وكالة الاستخبارات المركزية أثناء تحليقه فوق الاتحاد السوفتي بطائرة التجسس U-2 في عام 1960، أدركت الولايات المتحدة أن الاستمرار باستخدام هذه الطائرات كان مخاطرة كبيرة للغاية. وردا على ذلك، بُنِيت الطائرة SR-71 بلاك بيرد المحطمة للأرقام القياسية. كان بإمكان الطائرة بلاك بيرد أن تطير بأكثر من ثلاثة أضعاف سرعة الصوت، والوصول إلى ارتفاعات عالية بما يكفي لتجنب الكشف الراداري، كما كانت طائرة الاستطلاع الخاصة مغطاة بطلاء أسود ماصّ لأشعة الرادار.
مطلوب جواسيس
كيف تعمل وكالات الاستخبارات في عصر الإنترنت
يتشارك معظمنا أحداث حياتنا مع الأصدقاء والعائلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هذه البيانات تخلق مشكلات إذا كنت تريد أن تكون جاسوسا. وتكافح وكالات الاستخبارات من أجل العمل بفعالية في الوقت الذي يصعب فيه خلق هويات وخلفيات مزيفة. وسيترك معظم الناس آثارا من حياتهم الحقيقية عبر الإنترنت، ويمكن لبرمجيات التعرف على الوجوه أن تستخدم هذه الآثار لربط العميل السري بهويته الحقيقية.
وفي محاولة لمكافحة ذلك، تخطّط مصلحة الاستخبارات السرية في المملكة المتحدة ( والمعروفة اختصارا بـ SIS، أو MI6) لتوظيف ما يقرب من 1000 موظف جديد بحلول عام 2020. وفي بيان صحفي، أوضح رئيس مصلحة الاستخبارات السرية أليكس يونغر: “لقد أحدثت ثورة المعلومات تغيرات جذرية في بيئة عملنا. وفي غضون خمس سنوات، سيكون هناك نوعان من أجهزة الاستخبارات – تلك التي تتفهم هذه الحقيقة ومن ثم تزدهر، وتلك التي لم ولن تتفهمها.”