أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
غير مصنف

الجواسيس عبر التاريخ

أسرار‭ ‬الجاسوسية‭ ‬عبر‭ ‬العصور

أثبت‭ ‬مبدأ‭ ‬جمع‭ ‬المعلومات‭ ‬السرية،‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬السرية‭ ‬إلى‭ ‬التكتيكات‭ ‬العسكرية،‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬بثمن‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الحكام،‭ ‬والإمبراطوريات‭ ‬والحكومات‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬التاريخ‭. ‬فقد‭ ‬منح‭ ‬جمع‭ ‬المعلومات‭ ‬سِرّا‭ ‬عن‭ ‬الأعداء،‭ ‬وحتى‭ ‬الحلفاء،‭ ‬الدولَ‭ ‬فرصاً‭ ‬لجني‭ ‬مكاسب‭ ‬عسكرية،‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬اقتصادية‭.‬

الجاسوسية‭ ‬هي‭ ‬جمع‭ ‬المعلومات‭ ‬السرية،‭ ‬إذ‭ ‬تغيرت‭ ‬الأساليب‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬تنفيذها‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬مع‭ ‬تطوّر‭ ‬التكنولوجيا‭. ‬ففي‭ ‬روما‭ ‬القديمة،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬اعتراض‭ ‬الرسائل‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬المُتلقِّي‭ ‬المعنيّ‭. ‬وفي‭ ‬محاولة‭ ‬للحيلولة‭ ‬دون‭ ‬ذلك،‭ ‬اخترع‭ ‬يوليوس‭ ‬قيصر‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬الشيفرات‭- ‬أي‭ ‬الرموز‭ ‬المستخدمة‭ ‬لإخفاء‭ ‬الرسائل‭ – ‬لمنع‭ ‬جواسيس‭ ‬الأعداء‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬اتصالاته‭ ‬العسكرية‭ ‬السرية‭.‬

وفي‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬اكتسبت‭ ‬الجاسوسية‭ ‬أهمية‭ ‬خاصة‭ ‬خلال‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين،‭ ‬إذ‭ ‬أنشأت‭ ‬الدول‭ ‬شبكات‭ ‬استخباراتية‭ ‬ضخمة‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لاستباق‭ ‬تحركات‭ ‬العدو‭. ‬وتشير‭ ‬بعض‭ ‬التقديرات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬فك‭ ‬رموز‭ ‬آلات‭ ‬“إنغما”‭ ‬Enigma‭ ‬النازية ‭ )‬التي‭ ‬تستخدم‭ ‬لتشفير‭ ‬الرسائل‭ ‬(،‭ ‬ووصفت‭ ‬بأنه‭ ‬“يستحيل‭ ‬كسرها”،‭ ‬قد‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تقصير‭ ‬أمد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬بعدة‭ ‬سنوات،‭ ‬مما‭ ‬أنقذ‭ ‬حياة‭ ‬عدد‭ ‬لا‭ ‬يحصى‭ ‬من‭ ‬البشر‭.‬

وخلال‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬حينما‭ ‬لاح‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬خطر‭ ‬نشوب‭ ‬حرب‭ ‬نووية‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفيتي،‭ ‬مثّلت‭ ‬الاستخبارات‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬تكتيكات‭ ‬حيوية‭ ‬أثرت‭ ‬في‭ ‬كلا‭ ‬الجانبين‭. ‬فقد‭ ‬قام‭ ‬الجواسيس‭ ‬بتغيير‭ ‬الأدوات‭ ‬لتشبه‭ ‬شكل‭ ‬أشياء‭ ‬تستخدم‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬للمساعدة‭ ‬على‭ ‬جمع‭ ‬المعلومات،‭ ‬من‭ ‬الكاميرات‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬زر‭ ‬معطف‭ ‬إلى‭ ‬ميكروفونات‭ ‬مخبأة‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬الأحذية‭.‬

لا‭ ‬تزال‭ ‬عمليات‭ ‬مكافحة‭ ‬الجاسوسية‭ ‬تتسم‭ ‬بأهمية‭ ‬مذهلة‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭. ‬وتعمل‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬مواطنيها‭ ‬ضد‭ ‬التهديدات‭ ‬الموجهة‭ ‬إلى‭ ‬المصالح‭ ‬الوطنية،‭ ‬وتقوم‭ ‬بتنفيذ‭ ‬عمليات‭ ‬مكافحة‭ ‬الإرهاب‭ ‬والتصدي‭ ‬لجرائم‭ ‬الإنترنت‭.‬

الجاسوسية‭ ‬قديما

كيف‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬جمع‭ ‬المعلومات‭ ‬الاستخباراتية‭ ‬في‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة

في‭ ‬أوائل‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬أنشئت‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النهرين‭ ‬ومصر‭ ‬القديمة،‭ ‬كان‭ ‬التجسّس‭ ‬وسيلة‭ ‬فعالة‭ ‬استخدمها‭ ‬الملوك‭ ‬والفراعنة‭ ‬في‭ ‬مراقبة‭ ‬الشعب،‭ ‬وكذلك‭ ‬لاكتشاف‭ ‬نقاط‭ ‬الضعف‭ ‬لدى‭ ‬الأعداء‭.‬

وقد‭ ‬استخدم‭ ‬قدماء‭ ‬المصريين‭ ‬جواسيس‭ ‬البلاط‭ ‬للتخلص‭ ‬من‭ ‬الرعايا‭ ‬الخائنين،‭ ‬وكانوا‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬استخدم‭ ‬السموم‭ ‬لأغراض‭ ‬التخريب‭ ‬أو‭ ‬الاغتيالات‭.‬

وبالنظر‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬امتلاكهم‭ ‬لأي‭ ‬أداة‭ ‬تجسس،‭ ‬كان‭ ‬التنصت‭ ‬واعتراض‭ ‬الرسائل‭ ‬واستطلاع‭ ‬تحركات‭ ‬العدو‭ ‬هي‭ ‬الطرق‭ ‬الرئيسية‭ ‬المستخدمة‭ ‬لجمع‭ ‬المعلومات‭ ‬الاستخباراتية‭ ‬المفيدة‭. ‬وطوِّرت‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬التقنيات‭ ‬الذكية‭ ‬لضمان‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬سرية‭ ‬الرسائل‭ ‬المكتوبة،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬استخدام‭ ‬الرموز‭ ‬والأحبار‭ ‬السرية‭.‬

وقد‭ ‬برع‭ ‬الإغريق‭ ‬في‭ ‬التجسس‭ ‬والتمويه‭. ‬وصارت‭ ‬حكاية‭ ‬حصان‭ ‬طروادة‭ ‬الأسطورية‭ ‬رمزا‭ ‬لتكتيكاتهم‭ ‬العسكرية‭ ‬الماكرة‭ ‬والخادعة‭. ‬فقد‭ ‬طوّروا‭ ‬طرقا‭ ‬فعالة‭ ‬لإيصال‭ ‬الرسائل‭ ‬المهمة‭ ‬بين‭ ‬المدن،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬نظام‭ ‬الإشارات‭ ‬النارية‭ ‬المعروف‭ ‬باسم‭ ‬السيمافور‭ ‬الهيدروليكي‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬الطرق‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬استخدمها‭ ‬الإغريق‭ ‬للحيلولة‭ ‬دون‭ ‬اعتراض‭ ‬رسائلهم،‭ ‬كانوا‭ ‬يقومون‭ ‬بنحت‭ ‬الرسائل‭ ‬المهمة‭ ‬على‭ ‬الخشب‭ ‬ثم‭ ‬تغطيته‭ ‬بالشمع‭. ‬وبعد‭ ‬ذلك،‭ ‬يُرسل‭ ‬اللوح‭ ‬الخشبي‭ ‬إلى‭ ‬الحليف‭ ‬المعني،‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬بإذابة‭ ‬الشمع‭ ‬لقراءة‭ ‬الرسالة‭. ‬كما‭ ‬استخدموا‭ ‬طرقا‭ ‬أكثر‭ ‬بشاعة،‭ ‬مثل‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬الخارجي‭ ‬للمثانة‭ ‬المنتفخة‭ ‬لحيوان‭ ‬ما،‭  ‬قبل‭ ‬تفريغها‭ ‬وتعبئتها‭ ‬في‭ ‬قارورة‭. ‬ومن‭ ‬الممكن‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬نقل‭ ‬الوثيقة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يلاحظها‭ ‬أحد‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مكان،‭ ‬وذلك‭ ‬حتى‭ ‬يتم‭ ‬فتحها،‭ ‬ونفخها‭ ‬وقراءتها‭. ‬

الجاسوسية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الإليزابيثي

أنشأَت‭ ‬آخر‭ ‬ملكات‭ ‬أسرة‭ ‬تيودور‭ ‬شبكةً‭ ‬استخباراتية‭ ‬ساعدتها‭ ‬على‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بعرشها

كملكة‭ ‬بروتستانتية‭ ‬دون‭ ‬وريث،‭ ‬تعرّض‭ ‬حكم‭ ‬إليزابيث‭ ‬الأولى‭ ‬للتهديد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مؤيدي‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬ماري،‭ ‬ملكة‭ ‬أسكتلندا‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬التهديد‭ ‬باغتيالها،‭ ‬أنشأت‭ ‬الملكة‭ ‬شبكةً‭ ‬من‭ ‬الجواسيس‭ ‬لحمايتها‭ ‬من‭ ‬المعارضين‭ ‬ولكشف‭ ‬المؤامرات‭ ‬الخارجية‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬رئيس‭ ‬جهاز‭ ‬مخابرات‭ ‬إليزابيث‭ ‬هو‭ ‬السير‭ ‬فرانسيس‭ ‬والسينغهام‭ ‬Walsingham،‭ ‬وهو‭ ‬محام‭ ‬بروتستانتي‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬يعيّنون‭ ‬كجواسيس‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أعظم‭ ‬العقول‭ ‬في‭ ‬البلاد؛‭ ‬وكُلِّف‭ ‬الباحثون‭ ‬والعلماء‭ ‬واللغويون‭ ‬جميعهم‭ ‬بحماية‭ ‬الملكية‭ ‬المعرضة‭ ‬للخطر‭.‬

كما‭ ‬عمل‭ ‬التقدم‭ ‬التكنولوجي‭ ‬على‭ ‬مساعدة‭ ‬شبكة‭ ‬المخابرات‭ ‬هذه؛‭ ‬فقد‭ ‬استخدم‭ ‬الحبر‭ ‬غير‭ ‬المرئي‭ ‬المصنوع‭ ‬من‭ ‬الحليب‭ ‬أو‭ ‬عصير‭ ‬الليمون‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة،‭ ‬مما‭ ‬سمح‭ ‬بكشف‭ ‬الرسائل‭ ‬السرية‭ ‬بتسخين‭ ‬الورقة‭ ‬بواسطة‭ ‬شمعة‭. ‬وقد‭ ‬صار‭ ‬علم‭ ‬التشفير‭ )‬التعمية)‭  ‬أكثر‭ ‬تقدما،‭ ‬كما‭ ‬احتاجت‭ ‬شبكة‭ ‬الجواسيس‭ ‬حتى‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬كتابة‭ ‬وفك‭ ‬الشيفرات‭ ‬المختلفة‭.‬

واكتشفت‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المؤامرات‭ ‬التي‭ ‬هدفت‭ ‬إلى‭ ‬إسقاط‭ ‬أو‭ ‬اغتيال‭ ‬الملكة‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬حكمها‭. ‬وقد‭ ‬أنقذت‭ ‬المعلومات‭ ‬الاستخباراتية‭ ‬التي‭ ‬جمعتها‭ ‬مخابرات‭ ‬إليزابيث‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭ ‬حياتها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭. ‬مثلا،‭ ‬فبعد‭ ‬سجنها،‭ ‬حافظت‭ ‬ماري‭ ‬ملكة‭ ‬اسكتلندا‭ ‬على‭ ‬اتصالها‭ ‬بالعالم‭ ‬الخارجي‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬إرسال‭ ‬رسائل‭ ‬مشفرة‭ ‬لحلفائها‭ ‬مخبأة‭ ‬في‭ ‬براميل‭ ‬من‭ ‬الجعة‭. ‬يذكر‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬البراميل‭ ‬كانت‭ ‬تهرَّب‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عميل‭ ‬مزدوج‭ ‬يعمل‭ ‬نيابة‭ ‬عن‭ ‬والسينغهام،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بفك‭ ‬شيفرة‭ ‬رسائلها،‭ ‬وأثبت‭ ‬أن‭ ‬ماري‭ ‬متورطة‭ ‬في‭ ‬مؤامرة‭ ‬لقتل‭ ‬إليزابيث‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬قُبِض‭ ‬على‭ ‬المتورطين،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬ماري،‭ ‬وحوكموا‭ ‬وأعدموا‭ ‬بتهمة‭ ‬الخيانة‭.‬

جواسيس‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية

كيف‭ ‬استخدمت‭ ‬استراتيجيات‭ ‬التجسس‭ ‬المبتكرة‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لكسب‭ ‬كلتا‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين

قد‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬نتذكره‭ ‬عن‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬هو‭ ‬حرب‭ ‬الخنادق،‭ ‬ولكن‭ ‬وراء‭ ‬خطوط‭ ‬القتال،‭ ‬لعب‭ ‬الجواسيس‭ ‬دورا‭ ‬حيويا‭. ‬فقد‭ ‬أطلق‭ ‬على‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬شبكات‭ ‬التجسس‭ ‬الأكثر‭ ‬نجاحا‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬الاسم‭ ‬الرمزي‭ ‬“السيدة‭ ‬البيضاء”‭ ‬La Dame Blanche‭. ‬ولكونها‭ ‬تضم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬عضو،‭ ‬عملت‭ ‬المنظمة‭ ‬لصالح‭ ‬البريطانيين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القيام‭ ‬بمهام‭ ‬استطلاعية‭ ‬قيمة‭ ‬في‭ ‬بلجيكا‭ ‬المحتلة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ألمانيا،‭ ‬والتجسس‭ ‬على‭ ‬القطارات،‭ ‬والطرق‭ ‬والمطارات‭.‬

وكان‭ ‬تطوّر‭ ‬الطائرات‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الاستطلاع‭ ‬الجوي‭ ‬مثّل‭ ‬بدوره‭ ‬جزءا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬الحرب‭. ‬وقامت‭ ‬الطائرات‭ ‬الألمانية‭ ‬والفرنسية‭ -‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭- ‬بالتقاط‭ ‬الصور‭ ‬من‭ ‬الجو‭ ‬لدراسة‭ ‬تحركات‭ ‬القوات‭ ‬المعادية‭. ‬وقد‭ ‬ساعدت‭ ‬الاستخبارات‭ ‬الألمانية‭ -‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭- ‬فرق‭ ‬الجيش‭ ‬الألماني‭ ‬على‭ ‬التقدم‭ ‬على‭ ‬الجبهة‭ ‬الشرقية،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬وثائق‭ ‬سرية‭ ‬واعتراض‭ ‬الرسائل‭ ‬اللاسلكية،‭ ‬كانوا‭ ‬يعرفون‭ ‬التحركات‭ ‬التي‭ ‬يخطط‭ ‬الروس‭ ‬لها‭.‬

وعندما‭ ‬بدأت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬كانت‭ ‬الجاسوسية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬جزءا‭ ‬أساسيا‭ ‬من‭ ‬الحرب‭. ‬وكانت‭ ‬منظمة‭ ‬الاستخبارات‭ ‬العسكرية‭ ‬الألمانية،‭ ‬الآبفير‭ (‬الدفاع‭) ‬Abwehr،‭ ‬فعالة‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬احتلال‭  ‬هولندا‭. ‬وتمكنت‭ ‬المجموعة‭ ‬من‭ ‬أسر‭ ‬52‭ ‬عميلا‭ ‬للحلفاء‭ ‬و350‭ ‬من‭ ‬مقاتلي‭ ‬المقاومة،‭ ‬والذين‭ ‬قُبض‭ ‬على‭ ‬بعضهم‭ ‬بمجرد‭ ‬هبوطهم‭ ‬بالمظلات‭. ‬ولظنهم‭ ‬أنهم‭ ‬يزودون‭ ‬حلفائهم‭ ‬الهولنديين‭ ‬بالسلاح،‭ ‬زوّد‭ ‬البريطانيون‭ ‬الألمان‭ ‬عن‭ ‬غير‭ ‬قصد‭ ‬بنحو‭ ‬570‭ ‬صندوقا‭ ‬من‭ ‬الأسلحة‭ ‬والذخيرة‭.‬

ومن‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬آلات‭ ‬“إنغما”‭ ‬النازية‭ ‬استخدمت‭ ‬لضمان‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬رسائل‭ ‬الجيش‭ ‬الألماني‭ ‬آمنة‭. ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬إرسال‭ ‬إشارة،‭ ‬كان‭ ‬المشغّل‭ ‬يكتب‭ ‬رسالته‭ ‬ثم‭ ‬يقوم‭ ‬بتغيير‭ ‬ترتيب‭ ‬حروفها‭ ‬باستخدام‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الدوّارات‭ ‬rotors،‭ ‬مما‭ ‬يعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬الرسالة‭ ‬كخليط‭ ‬من‭ ‬الحروف‭ ‬المختلفة،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬المُتلقي‭ ‬معرفة‭ ‬الإعدادت‭ ‬الدقيقة‭ ‬المستخدمة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المرسل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فك‭ ‬شيفرة‭ ‬الرسالة‭ ‬الأصلية‭ ‬على‭ ‬جهازه‭. ‬وكانت‭ ‬الإعدادات‭ ‬تُغيّر‭ ‬بصورة‭ ‬متكررة،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬النسخة‭ ‬العسكرية‭ ‬النموذجية‭ ‬من‭ ‬آلة‭ ‬“إنغما”‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬150‭ ‬مليون‭ ‬تريليون‭ ‬إعدادا‭ ‬مختلفا،‭ ‬ولذلك‭ ‬فقد‭ ‬اعتُبر‭ ‬فك‭ ‬الشيفرة‭ ‬ضربا‭ ‬من‭ ‬المستحيلات‭. ‬لكن‭ ‬البريطانيين‭ ‬تمكنوا‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬من‭ ‬فك‭ ‬شيفرة‭ ‬الآلة‭ ‬“إنغما”‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قامت‭ ‬فرق‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬الرياضيات‭ ‬ومحطمي‭ ‬الشيفرات‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬بلتشلي‭ ‬بارك‭ ‬بتطوير‭ ‬حواسيب‭ ‬عُرفت‭ ‬ببومبي‭ ‬Bombe،‭ ‬أمكنها‭ ‬اكتشاف‭ ‬إعدادات‭ ‬الجهاز‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬رسالة‭ ‬مشفرة‭ ‬تمّ‭ ‬اعتراضها‭. ‬ويقدر‭ ‬بعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬أن‭ ‬المعلومات‭ ‬الاستخباراتية‭ ‬التي‭ ‬جمعها‭ ‬الحلفاء‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬كسر‭ ‬شيفرة‭ ‬آلات‭ ‬“إنغما”‭ ‬قد‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬تقصير‭ ‬أمد‭ ‬الحرب‭ ‬بقدر‭ ‬عامين‭.‬

الجاسوسية‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة

بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬ظهر‭ ‬عصر‭ ‬الجاسوسية‭ ‬خلال‭ ‬صراع‭ ‬مرير

بدأ‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفيتي،‭ ‬والذي‭ ‬استمر‭ ‬طيلة‭ ‬عقود،‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الرايخ‭ ‬الثالث‭ ‬الألماني‭. ‬كانت‭ ‬الدولتان‭ ‬تمتلكان‭ ‬أيديولوجيات‭ ‬متعارضة‭- ‬الرأسمالية‭ ‬مقابل‭ ‬الشيوعية‭ ‬–وكان‭ ‬انعدام‭ ‬الثقة‭ ‬بينهما‭ ‬متبادلا‭. ‬وقد‭ ‬تزايدت‭ ‬حدة‭ ‬التوتر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬كلتا‭ ‬القوتين‭ ‬في‭ ‬سباق‭ ‬للتسلح‭ ‬وتنامى‭ ‬خطر‭ ‬نشوب‭ ‬حرب‭ ‬نووية‭ ‬مدمرة‭.‬‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬الجاسوسية‭ ‬إحدى‭ ‬الطرق‭ ‬الأساسية‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬كسر‭ ‬الجمود‭. ‬كانت‭ ‬القوتان‭ ‬العظميان‭ ‬مصمِّمتين‭ ‬على‭ ‬امتلاك‭ ‬اليد‭ ‬العليا،‭ ‬لذلك‭ ‬أرسلت‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬جواسيسها‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬لجمع‭ ‬المعلومات‭ ‬الاستخبارية‭ ‬عن‭ ‬العدو‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬أسوأ‭ ‬شبكات‭ ‬الجاسوسية‭ ‬سمعة‭ ‬وراء‭ ‬الستار‭ ‬الحديدي،‭ ‬نجد‭ ‬وزارة‭ ‬أمن‭ ‬الدولة،‭ ‬المعروفة‭ ‬باسم‭ ‬ستاسي‭ ‬Stasi‭. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬عملها‭ ‬في‭ ‬برلين‭ ‬الشرقية،‭ ‬استخدمت‭ ‬المنظمة‭ ‬أساليب‭ ‬وحشية‭ ‬لمراقبة‭ ‬أنشطة‭ ‬مواطني‭ ‬عاصمة‭ ‬ألمانيا‭ ‬الشرقية‭. ‬وكان‭ ‬جنود‭ ‬“ستاسي”‭ ‬يطلقون‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬المواطنين‭ ‬الذين‭ ‬يخرجون‭ ‬عن‭ ‬الخط‭ ‬المرسوم‭ ‬أو‭ ‬يحاولون‭ ‬الهروب‭ ‬إلى‭ ‬الغرب‭.‬

وبعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬أطلقت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬مشروع‭ ‬شامروك‭ ‬Project Shamrock‭ ‬ومشروع‭ ‬المنارة‭ ‬Project Minaret‭ ‬،‭ ‬وهما‭ ‬تجربتان‭ ‬جاسوسيتان‭ ‬لرصد‭ ‬كافة‭ ‬المعلومات‭ ‬التلغرافية‭ ‬الداخلة‭ ‬والخارجة‭ ‬من‭ ‬البلاد‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الجواسيس‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لحساب‭ ‬السوفييت،‭ ‬والذين‭ ‬قاموا‭ ‬بجمع‭ ‬معلومات‭ ‬عن‭ ‬الأسلحة‭ ‬النووية،‭ ‬والتحركات‭ ‬العسكرية‭ ‬والتقنيات‭ ‬الجديدة‭.‬

وقد‭ ‬استمر‭ ‬الاستطلاع‭ ‬الجوي‭ ‬في‭ ‬لعب‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬العمليات‭ ‬الاستخباراتية‭. ‬وحددت‭ ‬وكالة‭ ‬الاستخبارات‭ ‬المركزية‭ ‬مواقع‭ ‬الصواريخ‭ ‬البالستية‭ ‬السوفييتية‭ ‬باستخدام‭ ‬أقمار‭ ‬اصطناعية‭ ‬تجسسية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬برنامج‭ ‬كورونا‭ ‬Corona Program‭. ‬وبعد‭ ‬مقتل‭ ‬طيار‭ ‬وكالة‭ ‬الاستخبارات‭ ‬المركزية‭ ‬أثناء‭ ‬تحليقه‭ ‬فوق‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفتي‭ ‬بطائرة‭ ‬التجسس‭ ‬U-2‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1960،‭ ‬أدركت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أن‭ ‬الاستمرار‭ ‬باستخدام‭ ‬هذه‭ ‬الطائرات‭ ‬كان‭ ‬مخاطرة‭ ‬كبيرة‭ ‬للغاية‭. ‬وردا‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬بُنِيت‭ ‬الطائرة‭ ‬SR-71‭ ‬بلاك‭ ‬بيرد‭ ‬المحطمة‭ ‬للأرقام‭ ‬القياسية‭. ‬كان‭ ‬بإمكان‭ ‬الطائرة‭ ‬بلاك‭ ‬بيرد‭ ‬أن‭ ‬تطير‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أضعاف‭ ‬سرعة‭ ‬الصوت،‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬ارتفاعات‭ ‬عالية‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬لتجنب‭ ‬الكشف‭ ‬الراداري،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬طائرة‭ ‬الاستطلاع‭ ‬الخاصة‭ ‬مغطاة‭ ‬بطلاء‭ ‬أسود‭ ‬ماصّ‭ ‬لأشعة‭ ‬الرادار‭.‬

مطلوب‭ ‬جواسيس

كيف‭ ‬تعمل‭ ‬وكالات‭ ‬الاستخبارات‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الإنترنت

يتشارك‭ ‬معظمنا‭ ‬أحداث‭ ‬حياتنا‭ ‬مع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والعائلة‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬البيانات‭ ‬تخلق‭ ‬مشكلات‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬جاسوسا‭. ‬وتكافح‭ ‬وكالات‭ ‬الاستخبارات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العمل‭ ‬بفعالية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يصعب‭ ‬فيه‭ ‬خلق‭ ‬هويات‭ ‬وخلفيات‭ ‬مزيفة‭. ‬وسيترك‭ ‬معظم‭ ‬الناس‭ ‬آثارا‭ ‬من‭ ‬حياتهم‭ ‬الحقيقية‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت،‭ ‬ويمكن‭ ‬لبرمجيات‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬الوجوه‭ ‬أن‭ ‬تستخدم‭ ‬هذه‭ ‬الآثار‭ ‬لربط‭ ‬العميل‭ ‬السري‭ ‬بهويته‭ ‬الحقيقية‭.‬

وفي‭ ‬محاولة‭ ‬لمكافحة‭ ‬ذلك،‭ ‬تخطّط‭ ‬مصلحة‭ ‬الاستخبارات‭ ‬السرية‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة‭ ( ‬والمعروفة‭ ‬اختصارا‭ ‬بـ‭  ‬SIS،‭ ‬أو‭ ‬MI6‭) ‬لتوظيف‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬1000‭ ‬موظف‭ ‬جديد‭ ‬بحلول‭ ‬عام‭ ‬2020‭. ‬وفي‭ ‬بيان‭ ‬صحفي،‭ ‬أوضح‭ ‬رئيس‭ ‬مصلحة‭ ‬الاستخبارات‭ ‬السرية‭ ‬أليكس‭ ‬يونغر‭: ‬“لقد‭ ‬أحدثت‭ ‬ثورة‭ ‬المعلومات‭ ‬تغيرات‭ ‬جذرية‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬عملنا‭. ‬وفي‭ ‬غضون‭ ‬خمس‭ ‬سنوات،‭ ‬سيكون‭ ‬هناك‭ ‬نوعان‭ ‬من‭ ‬أجهزة‭ ‬الاستخبارات‭ – ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تتفهم‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تزدهر،‭ ‬وتلك‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬ولن‭ ‬تتفهمها‭.‬”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى